الأربعاء، 22 مايو 2013

إلي بيدك يا مخلص...


في ظهيرة يوم الثلاثاء...
تلك الظهيرة التي كانت مشاعرها مختلفةً في نفسي....
لاحظت ورود رسالة لهاتفي عبر خدمة الواتساب...
كانت مرسلة من مخلص يسأل فيها عني ويطلب مني لقائه...
استغربت غاية الإستغراب من الأمر...
لم يكن سبب استغرابي هو ظني أن مخلص تحول لإنسان متبلد الإحساس تجاه من حوله، بعكس ما أن مثار استغرابي كان منصبًا على صمته الذي عرفته فيه...
صمته الذي آخيتُه فيه...
صمته الذي رافقته فيه...
صمته الذي عشته معه طيلة سنواتنا...
ذلك الصمت الكبير الذي حرك مخلص ركوده القديم فجأةً...
برسالةٍ واحدةٍ فقط...
بكلماتٍ قليلةٍ فقط...
بل بصوت تنبيه رسالة واحدة...
((كيف حالك يا أخي...إن ناسبك أن نلتقي هذا المساء سأكون بانتظارك))

أتراني يا مخلص قادرًا أن أُبقيَ ذاكرتي المضطربة مستقرةً لسويعاتٍ من الوقت ريثما يحينُ انتظارك المرتقب، دون أن تثير أسئلة لقائنا الطارئ الذي جاء وسط سديم استغرابي ليظل صمت خيباتك مؤججًا له...

حل مساءُ لقائنا يامخلص...
ذلك المساء العاتم الذي كنت خلاله جالسًا في مقهى خلوتي الصاخب بصوت متكلمين وصمت متأملين...
لقد كنت أحد أولئك المتأملين...
بل كنت الوحيد المتوحد فيهم الذي مارس تأمله وهدوئه  وشروده وهروبه عن كل الأشياء انتظارًا للقائك الذي يحمل كثيرًا من الأشياء..
جائني رنينُ اتصالك قبل صوتك ليجدد حنين لقاءاتنا القديمة فيما مضى من سنين...
طلبت مني انتظارك عند المقهى...
شعرتُ بتأنيب أُخوةٌ ثار في نفسي فجأةً حيال  قدومك من بيتك وما يحمله ذلك من مشقة وتعب، لم أكن راغبًا أن تعايش شعوره وكنت أنا قد تعودت وتكيفت على معايشة شعوره في كل مرةٍ آتي لبيتك بُغية رؤيتك والحديث معك دون اخبارك بقدومي، كان غايتي ومقصدي إدخال السرور والبهجة لقلبك الحزين...
أجدك حينئذ إما خارج البيت منشغلًا في عملك لتهرب معه من زحام الحياة والبشر...
عملك الذي مهما بدى إرهاقه الجسدي كبيرًا، إلا أنك تراه أرحم من إرهاق نفسي سببه وجعك من الحياة وخيبتك من البشر...
و إما أجدك غارقًا في نومٍ تهرب خلاله أيضًا من وجعك من الحياة وخيبتك من البشر...

لم يكن أيٌ من الحالين ليسببا ضيقًا أو حنقًا في نفسي يا مخلص لأني أعلم أن الصامتين تبقى لهم حياةٌ خاصةٌ جدًا تختلف عن حياة المتكلمين...
كنت أشعر بالفرح والسرور العارم في كل مرة أجد فيها عناء طريق أو تعب نفس لدى ذهابي للقائك مصطحبًا معي معرفةً مسبقةً بنتيجة اللقاء، لست أنا من قررت خوض هذا الأمر وما يحمله من انتظارٍ طويل وحيرةٍ أطول، بل كان قلبي الذي أحبك بصدق هو من قرر خوض ذلك الأمر...

في مساء لقائنا يا مخلص وأثناء إتصالك بي بقيت تعتذر لي بعمق عن تأخرك بالمجيء بسبب زحام الطريق وكنت قبل وأثناء بل وبعده أيضًا أختلق له...
أعذار لا تنتهي...
أعذار لا تنمحي...
أعذار لا تنجلي...
أعذار لا تنزوي...
أعذار وأعذار مهما سبقها من طول انتظار...
جئتني وفي عيناك ملئُ الحياة تعبًا...
جئتني وفي عيناك ملئُ الحياة وجعًا...
بل جئتني وفي عيناك ملئُ الحياة صمتًا...




الصديق الحقيقي، هو من لا يكف عن تلمس الأعذار لصديقه.
أجملُ العيون هي تلك التي تلمعُ فيها عفويةُ المشاعر..مشاعرُ حبّ..مشاعرُ اعتذار..وما أقساها لو كانت مشاعر احتضار حيال أقدار لا تعرف الإنتظار.

أقفلت سماعة هاتفي دون أن أقفل معها سيلًا من التخيلات لصور...أفكار...مشاعر...أصوات لقائنا الوشيك وأيضًا أوقاته التي ستصبح بعد حين في عداد ماض تحيكه ذاكرتي لتنسجه كثوب ذكريات قد لا يصلح إرتداؤه في زمن باتت فيه كثيرٌ من الأشياء غريبةً...

خرجتُ من مقهى خلوتي أسيرُ مسرعًا صوب المكان الذي اعتدت أن تركن فيه سيارتك...
لقد سبقت خطوات أقدامي نبضات قلبي في ذلك الوقت...
لم أجد سيارتك حينئذ موجودةً بالتأكيد لأنك اعتدت القيادة ببطئ أو القيادة بهذيان، تمامًا مثل ذلك الإنسان الذي يسير في درب حياة مؤلم لا تعرف ذاكرته معنى النسيان...
سويعاتٌ من انتظاري لك جائني خلالها رنينُ اتصالك...
أبصرتك أثنائها عيناك الشاردتان وهما تبحثان عن مكان توقف...
سارت خطواتي ونبضاتي يتسابقان نحوك حتى توقفت عند نافذة سيارتك...
أشرتُ لك بهاتفي الذي ما زال رنين اتصالك ينبضُ فيه...
نظرت لي بملئ أشياء كثيرة وأحزان سكنت واختبئت في عينيك يا مخلص...
ابتسمتُ لك ابتسامة شوق كبير ولهفة أكبر...
فتحت النافذة لتبادرني قائلًا بضحكة عفوية:
هل كنت تراقبني...
أجبتك بنفس مشاعر ضحكتك العفوية:
بل كنت أتحسس مجيئك...
أتحسس وجودك أيها الأخ الغالي...

ساد صمتٌ هادئٌ بيننا حينئذ يا مخلص...
سألتني بحيرة:
إلى أي مكان ترغب أن نذهب إليه يا خالد؟
أجبتك بنفس تساؤلات الحيرة التي تملئك: ما الشيء الذي ترغب محادثتي فيه يا مخلص؟
ارتسمت الإبتسامات الحائرة على ثغورنا من جديد...
تنهدت قليلًا يا مخلص قم واصلت قائلًا:
يبدو أنك جائع...مارأيك أن نذهب سويًا لتناول العشاء؟
أجبتك: كما تشاء أيها الأخ العزيز...

في السيارة....
لم أكن أنظر لصمتك الذي اعتدته فحسب...
بل كنت أنظر لطريقة قيادتك في شوارع الرياض والتي تشبه طريقة قيادتي...
قيادةٌ شاردة ومتلعثمة وهاذية كشرود وتلعثم وهذيان النفس التي يشغل ذاكرتها أشياء وأشياء تفقد خلالها التركيز والسيطرة  والشعور النفسي في مدينة صاخبة وغامضة كمدينة الرياض...

في الرياض أشياءٌ لم تكتب بعد...وجوهٌ تُعلمك الإلتفات إليها كثيرًا...عيونٌ تُعلمك التحديق فيها كثيرًا...
أرواحٌ تُعلمك الإنصات لها كثيرًا...وصمتٌ يعلمك مناجاته أكثر فأكثر.

في تلك الأثناء كنا نحاول ابتداء شيئ ما...خلق حديث ما...
بدأت كلامك لي بحيرة متبعثرة:
أي مطعم تراه مناسبًا لنأكل عنده يا خالد؟
أجبتك بحيرة متبعثرة أيضًا:
لست أدري...ما يناسبك يناسبني يا أخي...

أثناء لحظات سيرنا دون وجهة محددة وأثناء لحظات حيرتنا في الإختيار الذي تشاركنا فيه أشياء أخرى غير الحيرة كالصمت والشرود والتشتت...
دخلنا دون تخطيط مسبق ذلك الشارع العتيق الغارق والمختبئ في أحد حارات وبين أزقة حي السليمانية...
ذلك الشارع الذي تتزاحم في جنباته وباحاته محلاتٌ ودكاكين كثيرة تهت معها في مسارب خيالاتي الواسعة...
كنت أشتم فيها رائحة الزيت النقي والزيتون الأخضر والزعتر البري...
جميعهم كانوا يجسدون معاني شيء واحد كان اسمه((فلسطين))...
((فلسطين)) ذلك الجُرح الغائر في جسد عروبتنا وإسلامنا...
((فلسطين))ذلك الجُرح النازف من جبين عروبتنا وإسلامنا...
واصلاحاه...
واصلاحاه...
واصلاحاه...
هل وصل بنا خذلاننا يا مخلص إلى حد تمني خروجه من مثواه ليحرر قدساه...أرض المحشر والمنشر...

في غمرة الخيال الذي حلقت فيه توقفنا صدفةً عند ذلك المطعم...
أبصرتك وأبصرت عيناك التي كانتا تحملقان فيه باندهاش كبير...
لقد كانت واجهته قد ذكرتك بمدينتك الجريحة((حماه))...
تلك الواجهة التي كان مرسومًا عليها نواعير مدينة ((حماه)) وأجزاء أخرى من خضرتها الغناء...
أحسست بشلل الحزن الذي كان يمارس اختبائه في مشاعرك وجوارحك بكل لؤم يا مخلص...
كنت أنا الوحيد ربما الذي شعر بعمق جرح ((حماه)) فيك...
كنت أنا الوحيد ربما الذي عرف نوبة الألم التي تعتريك دون سابق انذار أو اخطار حينما يتعلق الأمر ((بحماه))...
ذلك الجرح الذي كان وما يزال ولا أدري هل سيبقى يحفر فيك آلامه وأوجاعه أيها الأخ العزيز...
تلك اللحظة حاولت صادقًا أن أنتشلك من أمواج حزنك التي ما فتأت تلطمك دون رحمة أو شفقة...
لقد تحول صمتك يا مخلص من شيء عادي إلى راهب لا يتوقفه عن ممارسة طقوس رهبانيته حتى نسي كل شيء يمت للحياة بصلة...
بات كل شيء فيك يا مخلص يتحدث صمتًا ويسمع صمتًا ويرى صمتًا...

عندئذ ربتت يدي على كتفك بكل إشفاق الأخوة وكل عطف الصداقة...
ترجلت من السيارة...فتحت بابك...مددت يدي لك ثم أسندتك على كتفي ومضينا نسيرُ للمطعم...
كنت أعلم طبيعة الشلل اللحظي التي أصابتك في تلك اللحظة وأسكتت كل مافيك بسبب صورة وشيء أعاد لك ذكريات ماض ((حماه)) المؤلم والموجع...
لقد جئت لهذه الحياة يا مخلص في نفس العام الذي اجتاحت فيه قوات البعث الغاشمة مدينتك ((حماه))...
لقد جئت لهذه الحياة يا مخلص في نفس العام الذي قُتل فيه كثيرٌ من أهل بيتك...
لقد جئت لهذه الحياة يا مخلص في نفس العام الذي أُسر فيه كثيرٌ من أهل بيتك...
لقد جئت لهذه الحياة يا مخلص في نفس العام الذي شُرد فيه كثيرٌ من أهل بيتك...
لقد جئت لهذه الحياة يا مخلص في نفس العام الذي كنت تتمنى أن يكون مولدك في مدينتك ((حماه))...

لقد كنت أتحاشى يا مخلص في كل مرة ألقاك فيها مجرد الحديث عن أحداث الثورة السورية...
لأني كنت أعلم أن أشواك حزن كانت ستنمو تلقائيًا على ثغرك الذي عهدته دومًا باسمًا متفتحًا رغم أغصانه النامية بصمت...

أقسى المشاعر حينما يتعرفُ الإنسان مُتأخرًا على آلام واجهت حياة صديقه، الذي ظل يعضُ على حبال سكوته لرسم ابتسامة أمل، كقائد أوركسترا لا يشكو تعب مسك عصاته وتحريكها، غايته في ذلك أن يكون أداء فرقته رائعًا.

لا زلت أذكر يا مخلص حينما كنا جالسان نتسامر ونتجاذب أطراف الحديث ونرمي بأمنياتنا حينما تعود لوطنك ((حماه))...ذلك اليوم الذي كنت أخبرك فيه أن أكتب شيئًا لأجلك...
شيءٌ يختلف عن أي أشياء كتبتها قبلًا لك...
شيءٌ أشاركك فيه شيئًا من حبّ مدينتك ((حماه))...
أخرجت قلمي النازف و ورقي الذابل فكتبت لمخلص حماه:

يا مدينةً كانت تغفو على خرير نواعيرها...
يا مدينةً كانت تهيمُ في سحر خضرتها...
يا مدينةً قد عرفت كيف تصنع من الثأر شرفًا بعد عبادة موت طال أمدها...
موتٌ امتد لكل من سكن قلبك...
موتٌ امتد لكل من ارتشف هوائك...
موتٌ امتد لكل من أدمن صوتك...
يا لغرابة صبر سنينك على إرث إنتقام ظلت غصات ماضيه عالقةً في ذاكرتك...
بل يا لغرابة هذا العالم حين يحاول عبثًا تغافل تاريخ قمعك العميق...
بل يا عروس ماض جميل...
هات يديّك واطلق عنانًا لجوارح أرض فاتنةً  ترغب برقص لا يتوقف...
رقصُ حياة ينفضُ غبار الموت عن جسد ظل هادئًا...
ارقصي يا حماه كما لم ترقصي...


ارقصي على ألحان نواعير تنغمس في مائك...
ارقصي على أشجان حمائم تحلق في سمائك...
ارقصي أيها الملاك الحالمُ الجميل رقص ثأرك...
ففي رقص ثأرك طمسٌ لعبوديتك وميلادٌ لحريتك...
ارقصي كما لم ترقصي قبلًا وكما لم ترقصي بعدًا...
أنهيتُ كتابتي عن ((حماه)) ثم سلمتك الورقة بكل الود والحبّ الأخوي لك والذي سكن قلبي...
إخلاصًا ووفاءًا لك ولمدينتك((حماه))...
لقد رأيت حينئذ بريق السعادة يلمعُ في عينيك...

وصلنا لعتبة باب المطعم...
كنت أشعر أنك ترمي بثقل أحزانك على كاهلي الذي كنت تبحث قبل معرفتنا ببعضنا عن كاهل أخ وصديق ترمي عليه أحزانك الثقيلة جدًا...
لقد كنت تبكي حينها بحرقة صامتة وغريبة...
لم أكن أتوقع أن السبب كان يتعلق ((بحماه)) فقط...
بلى...بلى...بلى
لقد نسيت لوهلة أنه هناك شيئًا آخر قد يكون هو سبب بكائك بلاشك والذي جعلك تطلب لقائي فجأةً...
كانت الطاولات فارغةً والمكان خال من أي زبائن...
ماذا دهى شباب مدينة الرياض في تلك الليلة...
لقد اعتدت دومًا رؤيتهم وهم يمارسون زحاهم على طاولات المطاعم...
هل جفى الجوع بطونهم في تلك الليلة...
أم أنهم أرادوا إشباع جوع آخر بطريقة أخرى متجسدة في تجولهم على قوارع شارع التحلية...
ذلك الشارع الذي ما فتئت ذاكرة تذوب وتذوب في تأمل مشاهد لهو وإستعراض الشباب الفارغ بالسيارات والدبابات وملاحقة الفتيات...





كانت عقارب الساعة تشير إلى منتصف الليل...
انتصف الليل وكان خوفي عليك يا مخلص يوشك على الإنتصاف...
لقد بدأت تسترد ذهنك شيئًا فشيئًا بعد نوبة الحزن التي اعترتك فجأة...
وما زلت أنتظر منك كلمات تذهب عما في نفسي من قلق عليك...
كنا جلوسًا وحدنا على طاولة الطعام...
جلست أفكاري ومشاعري ترقبُ عن كثب ما يدور في نفسك...
لم أنتظرك حينئذ حتى تبادرني بالحديث...
كنت أعلم يقينًا أنك تنتظر مني في كل لقاء إلقاء خيط الكلام لتتشبث بطرفه ثم تمارس بعده ما يسكن نفسك من بوح وشكوى وأنين...
وخزت قلبي أشواك الشك أن الأمر متعلقٌ بورشة الحدادة التي استندت المال من هنا وهناك لشراء معداتها وآلاتها ولتحقق في نهاية المطاف حلمك القديم المتمثل أن يكون لديك عملٌ خاصٌ بك...
عملٌ شريف...
عملٌ عفيف...
تكسبُ منه رغيف العيش...
رغيفٌ يغنيك عن طلب الآخرين...
علمت كذلك أن هناك أشياءٌ أخرى كانت تقفُ عائقًا وحائلًا أمام تحقيق حلمك البريئ والذي مهما بذلت في سبيله الخطوات النظامية والشروط القانونية، إلا أنه يبقى لتجاوزات النظام والقانون حضورها الطاغي والصارخ في سوق العمل والعمال...

علمتُ يا مخلص قبل نظرة عينيك أنك كنت تشكو وطأة نظام الكفيل والمكفول...
ذلك النظام الذي حوله الأغنياء والوجهاء والتجار لنظام استعباد ورق للضعفاء والمساكين...
الضعفاء والمساكين الذين لا يملكون حولًا ولا قوةً ولا حيلةً...
الضعفاء والمساكين الذين أجبرتهم قسوة الحياة والحال لترك الأهل والوطن ليمارسوا غربة أحزانهم في بلادنا...
فما كان من أولئك الأغنياء والوجهاء والتجار إلا أن استغلوهم حاجتهم وضعفهم وهوانهم على الحياة...




في غمرة صمتك القبوري صرخ ألمك المكلوم فجأةً...
لماذا...لماذا...لماذا يا خالد...
هل أضحى ((الأجنبي)) أو ((الوافد)) أو تسميات الإعلام المحسوب التي يطلقها علينا ليصنفنا أننا سارقين لخيرات البلد في نظر أهلها...؟؟
لماذا يحصل معي هذا الأمر وأنا الذي سلكت الطرق النظامية لكي يكون لي عملٌ خاصٌ بي..؟؟
هل يلزمني الأمر أن أتحول لإنسان رائش أو مرتشي لتمضي أمورُ عملي على مايرام..؟؟
كم يؤرقني تلك الأسئلة التي تتصارع في نفسي دون إيجاد إجابة لها..

لكم كانت خيبتي كبيرةً وأنا أخرج من مقر دائرة منح الرخص...
لكم تفاجئت بأولئك الموظفين الذين كانت أعينهم تخبرني أن لا شيء سيمضي لك دون أن تدفع مالًا...
لكم تفاجئت بتلك القوانين التي تتغير وتتبدل في كل مرة أقصدهم فيها لمتابعة سير معاملة ورشة حدادتي...
تلك الورشة التي استأجرتها بمال ليس مالي وتكبدت أموالًا في سبيل شراء الآلات والمعدات...
لقد مضت سنتين وأنا مستأجرٌ لتلك الورشة دون أن أحرك ساكنًا فيها...
لم أعقد أي صفقات...لم أجري أي اتفاقات مع أي عميل كان...
كل ذلك انتظارًا لخروج تصريح الموافقة على مزاولة نشاط الحدادة...
أعلم أني مجرد مكفول لا يحق له مزاولة أي عمل أو تجارة إلا ضمن نطاق مهنته التي اُستقدم لأجلها...
لم أخالف...لم أعترض...لم أحتج على كل ذلك يا خالد...
بل سلكت تلك الإجراءات المنصوص عليها في نظام العمل والعمال...
نقلت كفالتي لخالي الذي يعمل مسـتثـمرًا أجنبيًا وحصلت على وكالة منه لإنهاء إجراءات فتح ورشة الحدادة...
وما زلت حتى هذه اللحظة أنتظر نتيجة معاملتي التي سكنت أدراج مكتب المسؤول عنها...

كم كانت صدمتي كبيرةً حينما ظننت أن المعقب الذي دفعت له آلاف وآلاف الريالات سيكون كفيلًا بإنهاء أمر المعاملة على خير ما يكون حسب علاقاته التي كان يخبرني أنها موافقةٌ للنظام، لكني تفاجئت أنه في كل مرةً يطلب مني مالًا أكثر وأكثر متذرعًا أمامي أن المعاملة تقتضي دفع رسوم نظامية وأنه لم يتقاضى سوى أجر تعقيبه ليس أكثر من ذلك...



كم كانت خيبتي أكبر حينما قررت أخذ ملف معاملتي والذهاب بنفسي لإيجاد حل لا أعلم كيف يكون شكله أو إجراؤه...أخبرني موظف الدائرة دون مقدمات ودون منحي فرصة للكلام أنه ينبغي علي أخذ موعد مسبق لمجرد سؤالي واستفساري عن وضع معاملتي...
سلمني أوراق معاملتي وورقةً أخرى ليرمي بعدها بمقولة ظلت تجول وتصول في مسامعي:
في هذه الورقة شروطٌ ينبغي عليك العمل على تحقيقها ليتم منحك موافقة لإقامة مشروعك...
لم أرى أمامي سوى مكاتب فارغة وموظفون فارغون يتجاذبون الحديث ويتبادلون الضحك...
لقد احتقرني الموظف وهو يسلمني أوراق معاملتي لأني لم أكن في نظره إلا مجرد عامل أو وافد أو أجنبي أو أي مسميات تطلق علينا يا خالد...
غادرت المكان وسط سديم من الشتات والضياع...
توجهت لسيارتي دون أن أعرف إلى أين أتجه ومن أقصد في نكبتي التي حلت بي...
لقد أصابتني طريقة استقبال وحديث الموظف لي بمقتل يا خالد...
كنت أرى جهدي وتعبي وبذلي في السنوات السالفة يتطاير أمامي دون أن أستطيع على إمساك أي شيء منه...

الذين تفننت الحياة والآخرون في كسرهم، توقع منهم أي شيء ما دام أنهم خسروا كل شيء.
في الريــاض....
يكون حال النفوس الطيبة النقية كحال الحشرات الضعيفة المسالمة التي تبقى باحثةً عن مساحات عيش تكفي أجسادها الصغيرة، ولو كانت تلك المساحات غير صالحة للعيش البشري، أقصد للعيش الحشري حسب قانون الحشرات التي يبقى لها قانون معيشة خاص بها...تُمني تلك الحشرات نفوسها بالأحلام المستحيلة والأماني الصعبة والتطلعات البعيدة اللاهثة وراء آمال وتفاؤلات بمساحات أوسع من هوامش حياتها المنخنقة...
مع تصرُم السنوات ومضي الأوقات تصابُ تلك الحشرات بسعار الموت البطيء لأرواحها، تنتظر خلاله أي أقدام عابرة تدوس ما بقي من أجسادها، يتولى الندم والحسرة عندئذ تشتيت ما بقي منها.

وصلت إلى سيارتي حاملًا أوراق معاملتي...
كان غبار النسيان يتطاير منها ليحط على مدرج عيناي التي أعمتها الحيرة والتفكير...
لقد شعرت بالألم يترنح ويتأرجح في نفسي يا خالد...
استندت إلى جانب السيارة لأستنشق شيئًا من أنفاس الراحة...
في تلك اللحظة لمحت رجلًا يسير ببطئ نحوي...
أصابني الذعر عندئذ من طريقة قصده لي...
كانت ثيابه رثةً وبالية...
رأيته يحمل في يديه أوراق معاملات وجوازات سفر...
في غمرة تأملي لمظهر الرجل...
اقترب مني أكثر...
جائتني كلمةٌ خاطفة لم أستوعب معناها حين قال:
-بقدر ما تدفع لي من مال بقدر ما سأنهي لك معاملتك...
تركني الرجل بعد أن رمى لي بورقة دوّن فيها رقم هاتفه...
تركني الرجل مخلفًا ورائه غبار أشياء لم أجد لها معاني أو تفسيرات...
أحسست أن دمي قد تجمد في عروق سمعي وأنا أنصت لرشوة ذلك الرجل لي...
هل كان ينبغي علي يا خالد أن أمارس الرشوة لأنهي أوراق معاملتي..؟؟
ما نفعُ الأنظمة وما فائدة القوانين إذن يا خالد..؟؟
أما أنها وضعت لتسري على البؤساء والتعساء مثلنا يا خالد..؟؟
قلي بربك يا خالد ما الذي يجري..؟؟

ثمة فرقٌ بين متبلد الإحساس ومنعدم الإحساس،فالأول تدب الحياة في عروقه فجأة إذا تعرض لصعقة كلمة أو وخز موقف في لحظة صادقة يستفيقُ فيها قلبه،وأما الآخر فاحساسه معدوم وميت فليس ثمة عودة تذكر.

أطرقت رأسك ويديك على الطاولة يا مخلص وأجهشت في بكاء صامت عميق...
كطير جريح أخفى رأسه بين جناحيه ليمارس تواريهُ واختبائهُ وكذلك بكائهُ...
مارست بكائك بكل عفوية وتلقائية، تمامًا كـكتمانك الذي تمارسه بكل عفوية وتلقائية...
لقد حفرت أحداث ذلك اليوم العصيب بمفاجآته كثيرًا من الآلام فيك...
بدت أوتار بوحك كأوتار آلة قديمة مالبثت وهي تتعرض لضربات تصدرُ أصوات نشيج حزن مسرف في صمته...




في تلك اللحظة فقط يا مخلص...
أحسست أننا قد تبادلنا أدوارنا في حياة فوضوية في توزيع أدوار شخصياتها...
حياة فوضوية في توزيع أحداث شخصياتها...
حياة فوضوية في توزيع مصائر شخصياتها...
حياةٌ تتحول فيها المبادئ وتتبدل فيها القيم بشكل خيالي...
حياةٌ لا تعطيك سوى فائض آلام وجراح وخيبات وأتراح...
لكنها تبقى حياة عادلة في منح الجميع موتًا يتساوى فيه السعداء والبؤساء...الأغنياء والفقراء...
إن السعداء يا مخلص يرون الأخلاق على غير المنظور الذي يراه البؤساء...
إن الموت يا مخلص يجردنا من كل شيء...
إن الأغنياء والفقراء يا مخلص يتساوون في الموت لكنهم بلاشك في الحياة لا يتكافؤون...

في الوقت الذي مازلت تمارس فيه يا مخلص بكائك الغزير، كـغيـمة ظلت تكتم مافي جوفها وفي لحظة ما اخترقها خيط شمس دافئة، انفجرت حينه مطرًا وغيثًا أغرقها وأغرق قلب أُخوة ظل يتحسس كتمانها...
في الوقت الذي شعرت فيه بعجز غريب عن فعل أي شيء يخفف من وطأة الألم العنيف الذي ظل يزاول اغتياله لك...
جعلت أمسح بعطف على شعر رأسك وأنت ما زلت تجهش بالبكاء...
انسكبت العبرات من قلبي والدمعات من عيني...
تذكرت وأنا أنصت لصوت نحيبك الحزين نحيب مدينتك ((حماه)) وأنينها الشاكي وبوحها الباكي...
شعرت أني لم أكن أمسح عن رأسك آلامك فحسب، بل آلام مدينتك ((حماه))...
حاولت عبثًا اقتسام أكبر حصص ممكنة من جراح نفسك وعذابات قلبك...

إلي بيدك يا مخلص...
إلي بيدك لنرقص سويًا...
إلي بيدك لنترنح سويًا...
إلي بيدك لنتأرجح سويًا...
رقص وترنح وتأرجح محبتنا وصداقتنا الأخوية...
التي تعاهدنا على تقاسم رغيف فرحها وحزنها...

الصديق الأصيل والأخ الوفي لا ينثر جراحات نفسه المتشظية حزنًا في حضرة جراح أحبابه لكي لا يجعل من الجرح جرحين ولكي يتفرغ بدوره لمداواة جروحهم الغائرة والتي اختاروه هو لكي يلملم بعثرتها.