يبدأ فجر الصباح بالتنفس بعد سباته الشتوي وهواءه ينفث بالزفير العليل ليبعث بنسائمه الهادئة على ماحوله من موجودات،خيوط الشمس حانت وقت تشققها لتتسلل خيوطها من أحد ثقوب نافذة غرفتي والتي جلدتها بتجليدة سوداء لكن دوما تخترق بعض أجزاء أشعة الصباح جو ظلام الغرفة لتطرق رموش عيني فتقول:هيا لقد حان وقت الاستيقاظ من النوم.أهم بخلع ملابس خزانتي لألبسها وأقتفي بعدها أثر رائحة فنجان القهوة الساخنة فأتناولها بيدي متجها صوب سيارتي،هنا أجلس أتمعن منظر عائلة القطط فالوالدين وبجانبهم اثنين من الابناء فرغم أنهم ليسوا صغار لكن كانوا مصطفين حول بعضهم بدفء الاحتواء،بعد سويعات تأمل لذلك المشهد الذي وثقته بعدسة عيني ليلهمني رباطة جأش في مواجهة يوم سيكون حافل بالمواجهات ذهبت لركوب سيارتي،بدأت بالأنين لتشكو برودة مفاصلها ريثما تشعر باسترجاع حرارة جسمها بعد ليلة باردة في ظل طقس مدينة الرياض،لحظات وعادت الدورة الدموية تدب في شرايينها لتعود حركة وقودها،هيا الآن سننطلق ويبدأ يوم عمل جديد.
وصلت لمقر عملي في شركة التأمين التي أعمل بها،ركنت السيارة في طرف الشارع،خطوات قدمي تسير نحو قطع الطريق،أثناء قطعه أرى وجوه السائقين هائمة،شخص لم يتطاير النعاس من جفونه بعد وآخر مازال يترنح من آثار استفاقته من غيبوبة النوم وثاني نظراته مبعثرة بين السيارات الأخرى،هنا وصلت لمصعد الصعود وأثناء انتظاري لنزوله كأني أسمع همس أحاديث الصاعدين والنازلين تتنقل عبر فتحات الهواء المركزي،وصل المصعد أخيرًا فدخلت على الفور صاعدًا للمكتب.
بعد القائي للسلام وتحية الصباح عادت أصدائها لمسامعي لكني أضعتها وسط ظلام المكتب،أووه نسيت لم يأتي أحد بعد،أشعلت نور المكتب وتوجهت صوب مكتبي،وضعت مفاتيحي ومحفظتي داخل فم الأدراج ثم أغلقتها،سمعت صوتها وهي تشرق أثناء التهامها لهم.أخرجت أوراق معاملات يوم الأمس لوضعها على عجين اليوم لبدأ طبخ فطيرة معاملات جديدة،أثناء الانتظار بدأت أسمع حسيس حركة أرضية المكتب،كان هناك قرع خطوات تمشي!! فجأة رأيته!! انه نعيم صديقنا في العمل،خمسيني العمر من بلاد السودان كان ضابطًا قديم في الجيش السوداني وبعد تقاعده المبكر انخرط في العمل في مجال التأمين وعاش بدايات نشأة الشركة،كان يسير بهدوء نحو مكتبه حاملًا معه علامات التعجب والاستفهام فوق رأسه ومدى البعثرة والضياع الذي يعيشه ويواجهه مع كثير من اقسام الشركة مما يسبب له الاحراج مع عملائه وتواصلهم معهم،فجلس على كرسيه وهم بامساك سماعة الهاتف ليطلب فنجان قهوة من العامل،ما أن هم نعيم بالضغط على رقم تحويلة العامل حتى سبقه بالحضور لمكتبه حاملًا معه صينية المشروبات ليعطيه فنجان شاي!! فقال نعيم له:أنا أريد قهوة ولم أطلب منك شاي فلماذا تحضره لي؟
فيجيبه العامل:لا مشكلة اشرب الشاي وسوف آتي لك بفنجان القهوة بعد أن أنتهي من غسل الفناجين!! هيا خذه بسرعة ولا تعطلني،حسنا هاهو على مكتبك!!
هنا جلس نعيم ينظر للموقف بدهشة!! فقال لي:ما رأيك يا سعود بما فعله العامل معي؟
فقلت له:هون عليك يا نعيم فتصرف العامل لو أمعنت قليلًا ستجد أنه امتداد لحال الفوضى واللامبالاة وعدم الاكتراث من قبل المدراء الكبار للموظفين الصغار والسماع لاحتياجاتهم،فذلك يمتد لمحيط العمل فيتأثر من يتأثر سلبًا أم ايجابًا حسب كل شخص.
نعيم:لا حول ولا قوة الا بالله على هذا الحال المزري الذي تتخبط فيه الشركة،حسنًا يا سعود سأستأذنك بالذهاب لدورة المياه ونعود لمواصلة حديثنا.
سعود:لا حاجة للاستئذان ياصديقي لكنك ستضطر للانتظار قليلًا!
نعيم:لماذا سأنتظر؟
سعود:لأن دورة المياه خارج نطاق التغطية في الوقت الحالي،فموظف الادارة الأخرى قد دخل لها قبل مجيئك وأظنه قد نام فيها!
نعيم:لاحول ولاقوة الا بالله،أليس لديهم دورة مياه تخصهم فلماذا دومًا يأتون للتي لدينا.
سعود:ألم أقل لك يا نعيم أنه الأمر امتداد لحالة الفوضى العامة في الشركة،فانظر لدورة المياه الخاصة بادارتنا يوجد بها حمام خاص بمدراء ادارتنا ومفاتيحهم معهم فلا يدخلها أحد سواهم وهذا شكل من أشكال السلوك الفوقي والاستعلائي نجده نحن الموظفين وينعكس سلبًا على شخصياتنا وعلى سيرورة أداء الشركة وانظر لصوت خطوات أقدامنا يا نعيم تجده تمشي على بلاط ثم ندخل لمكاتب المدراء فيتغير صوتها فجأة فهي هنا تمشي على سجاد أو رخام فاخر وهذا مثال آخر على السلوك الذي ذكرته لك وينعكس سلبيًا في أداء العاملين.
نعيم:لاحول ولاقوة الا بالله،بالفعل هذا هو الحال.
سعود:حسنًا يا نعيم لندع هذا الأمر جانبًا للحظات ودعنا نأكل فلدي حبات لذيذة من اللوز،هل تريد واحدة؟
نعيم:فلترمي لي يا سعود ببعضها دعني أقضم فيها حال هذه الشركة المتدحرج.
عندما هممت برميها نحو نعيم فجأة اختفت حبات اللوز وذابت في أنغام صوت فيروز الصادر من هاتف رامي القادم نحو مكتبه،لكن تلقى اتصال من عميل يشكو فيها الأخطاء الواردة في كشف الحساب الموجه له،فأجاب رامي العميل ببرود طبيعي لأنه اعتاد على سماع ردودهم المستاءة،أنهى رامي محادثته للعميل وهم لجلب بعضًا من القهوة،فسألنا هل تريدون قهوة؟
فأجبته:سوف أرافقك يا رامي.
كان رامي يعمل سابقًا في بدايات عمر الشركة في تأسيس كثير من مهام الشركة لكن تم تجاهله ولم يتم تقدير خبرته أسوة بنعيم،رامي من بلاد لبنان في خمسينيات العمر،قضى حياته متنقلًا بين كثير من الوظائف حتى استقر حاله في هذه الشركة.
جلبنا القهوة وبدأ الحوار بالحراك مع تحريك مكعبات السكر الذائبة في مزيج القهوة.فبدأ نعيم بالتضجر قائلًا:إلى متى سيستمر حال الشركة ضائعًا هكذا فاذا لا يريد أصحاب الشركة تقدير جهودنا فأقل المُرين أن ينتبهوا لأداء الشركة ويلتفتوا لخسائرها؟
أجبت بدوري:لا تقلق يانعيم فأصحاب الشركة ستجد لديهم غير هذه الشركة مجاميع متجمعة من الشركات فتجد التصرف في أيدي المدراء الذي كل واحد منهم يتملص من المسؤولية ويتقاضى راتبًا عاليًا دون أن يترك أثر بليغ في انتاجية الشركة.
فعقب رامي:كله ماشي..كله ماشي.
نعيم:لاحول ولاقوة الا بالله.
فتحدث رامي قائلًا:أنا كان لدي عميل أردت أن يحظى بعرض تأمين مغري يواكب سمعته لكن مسؤولي التسعير رفضوا مجرد التعامل معه والنقاش في هذا الأمر دون الرجوع للجهات المهنية في هذا الشأن.
سعود:هذا يبرهن يارامي بالازدواجية وعدم المركزية الموجودة في الشركة.
نعيم:لاحول ولاقوة الا بالله،وأنا أتذكر أني تسلمت فواتير سداد لصالح الشركة ولدى ذهابي للعميل لأسلمها له ليسددها فإذا بي أتفاجأ بقول العميل لي أنه سددها وسلمني ايصال تثبت سداده،فاكتشفت حجم التلاعب في فواتير السداد.
سعود:هههه.
رامي:كله ماشي..كله ماشي.
سعود:هل تعلمون يانعيم ويارامي ماهي أهم مشكلة ضمن سلسلة المشاكل التي سببت بخسائر الشركة؟
نعيم ورامي:ماهي المشكلة؟
سعود:المشاكل عديدة كالتباعد الحاصل بين المدراء والموظفين،الفوقية والاستعلاء ولو على شاكلة سلوك أو قول،والأهم منها هو أنك تجد الشركة تمنح خدمات التأمين على السيارات والصحة والبضائع لكنها نست أهم أنواع التأمين ألا وهو التأمين على عقل وفكر الموظفين المجتهدين المبدعين والذين يعتبرون أداة التقدم لأي منشأة ودونهم تنهار الشركة فلا تنتج ولا تتقدم.
نعيم:لاحول ولا قوة الا بالله.
رامي:كله ماشي..كله ماشي..!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق