السبت، 12 مايو 2012

تجاعيدُ زمان وروحُ إنسان

مساء الأمس، أزفت خيوط النهار على التمزق شيئًا فشيء إيذانًا برحيلها فذابت في عتمة المساء. كان لدي متسعٌ من الوقت لقضاء بعض الأشغال، إنتهزت فرصة الفراغ التي لدي للذهاب لأحد الأسواق في مدينة الرياض وذلك لغرض شراء بعض الحاجيات فقصدت أحد محلات العطور.


خرجت من البيت وركبت سيارتي ثم مضيت في طريقي، أثناء إنتظاري عند أحد إشارات السير، لمحت سيارةً بجانبي كان يقودها شابٌ كان إلى جانبه في المقعد المجاور له إمرأةٌ مسنة بدى من وجهها أنها في العقد السابع من عمرها تقريبًا، لفت نظري منظر الشاب وهو منشغل بتعديل كرسي الجلوس لتلك المرأة، كان يعاود تعديله بشكل متكرر حتى أنه لم يكن منتبهًا لإشارة السير عما إذا كانت قد أضاءت بالضوء الأخضر إلا عندما سمع صوت مقود السيارة التي ورائه فهم بعدها بمواصلة طريقه.


دفعني الفضول بالمُضيّ خلف سيارة ذلك الشاب ومن باب المصادفة كان مكان المحل الذي كنت أقصده يقع على نفس خط الطريق الذي سار عليه ذلك الشاب. في أثناء سيري خلف السيارة توقف الشاب فجأةً عند أحد المحلات الخاصة بالزينة والعطور فوجدتها فرصة لدخول ذلك المحل وقلت في نفسي: لا مشكلة، سوف أرى بضاعة هذا المحل وإن لم تعجبني فالمحل الذي أقصده قريبٌ منه وسأذهب إليه إن أجد شيئًا فيه يستحق الشراء.


إنتظرت داخل سيارتي لكي لا ألتفت نظر الشاب الذي كنت أسيرُ نحوه، فجلست أحدق لسويعات قليلة فيه وهو يترجل من سيارته حاملًا بيده عصا ثم ذهب صوب باب مقعد جلوس تلك المرأة المسنة ففتح لها الباب في موقف يدل على الإحترام والتقدير ومن ثم ناولها تلك العصا وثم أخذ يسير معها بكل تؤدة وهدوء حتى دخلا للمحل.


نزلت من سيارتي ودخلت بدوري للمحل، بدأت أقتفي أثر الشاب والمرأة العجوز وأخذت ألتفت في جنبات المكان، تهادى لسمعي صوت رجل وما أن نظرت لمصدر الصوت فكان هو ذلك الشاب واقفًا يتحدث مع أحد العاملين. إقتربت قليلًا وتظاهرت برؤية بعض البضائع الموجودة على الرفوف ورميت بأطراف سمعي صوب الشاب والمرأة العجوز التي كانت جالسة على أحد المقاعد وقد أطبق الهدوء المسرف عليها فكانت غارقة في صمتها وكذلك هو حالة عصاتها التي شاركتها سكونها بإستثناء عينيها التي ظلت جاحظةً بشكل جميل فكانت جفونها غارقة بين تجاعيد وجهها العفوي.




جلست أنظر من طرف خفي لمنظر الشاب وهو يأخذ علبة مكياج من عامل المحل فيتجه بها صوب تلك المرأة التي عرفت أنها والدته بعدما ظننت أنها قريبةٌ له في بادئ الأمر، فجعل يأخذ علبة مستحضر تجميل ويفتحها ثم أمسك بريشة حُمرة الخدود ويجربها على خد أمها، جلس يسألها بقوله: ما رأيك يا أمي هل ترين هذا اللون مناسب لك وهي لا لم تنبس ببنت شفه فلم أسمع منها سوى كلمات عامية بسيطة مثل:
((زين ماشي حاله...ما عليه قصور يا ولدي)) ثم ما تلبث أن تبتسم إبتسامةً شاردة، أعاد الشاب علبة الزينة وذهب وتناول عطرًا من رفة العرض وعاد لأمه ثانيةً فأخذ يبُخ على يدها ويسألها: كيف ترين رائحته يا أمي هل أعجبك؟ فجاوبته بنفس الكلمات ونفس الإبتسامات، في المقابل كانت ملامحُ الإستغراب مرتمسة على وجه عامل المحل وهو يراقب ذهاب ومن ثم عودة الشاب من رفوف العرض إلى والدته، ربما لاحظ أنها إمرأة عجوز
فأثارت تصرفات الشاب إستغرابه.


خرج الشاب مع أمه من المحل حاملًا أكياس الأشياء التي قام بشرائها، جاء عندي عامل المحل وأخذ يسألني ويستفسر مني عما إذا كنت بحاجة لمساعدته في الإستفسار عن منتج لديهم، فبادرته بالسؤال عن قيمة الأشياء التي قام ذلك الشاب بشرائها فأخبرني أن قيمة ما إشتراه بلغت ثلاثة آلاف ريال مابين عطور وأدوات تجميل!! كانت الدهشة قد ملئت عيناي فحبست مقلتيّ دموع التأثر على موقف ذلك الشاب الوفي والنبيل تجاه أمه العجوز، فعرفت أن القيمة لوحدها كانت خير مترجم لمعنى الإهتمام العظيم بأمه إبتداءًا من تعديله لمقعد جلوسها ومرورًا بمباشرته بأخذ العطور وأدوات الزينة وأخذ رأيها عنها وإنتهاءًا بالقيمة الباهظة التي دفعها.


خرجت من المحل ترافقني دموع الغصة النفسية من الموقف المخلص والفعل الإنساني لذلك الشاب تجاه أمه فدعوت الله تعالى أن يوفقنا لمثل فعله وعمله لنوفي ولو نزرًا قليلًا من حقوق أمهاتنا علينا.

*كثيرةٌ هي تلك الأشياء البسيطة جدًا في كينونتها فنغفل كثيرًا عن التفكير فيها وممارستها تجاه أمهاتنا وهي قد لا تكلفنا أي عناء لكن وقعها وأثرها في نفوسهم
يعني لهم الكثير جدًا والوفير جدًا.
سعود المحمود

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق