الأربعاء، 29 أغسطس 2012

أم خالد...حكاية كفاح ومآساة وطن

أم خالد، إمرأة سعودية تعيش في بلد الذهب الأسود، فاللون الأسود كما أنه يعني لون اللباس الذي تحتشم وتستتر به، فهو أيضًا كان يرمز لسوداوية معاني كثير من مشاهد حياتها.
أم خالد، إمرأة تقف على بدايات عتبة عقدها الرابع لتطرق بابه دون أن تعلم ما يكون على بقية عتبات عمرها.
أم خالد، إمرأة خاضت تجربة الزواج أكثر من مرة، في أحد زيجاتها رزقت بإبنها البكر فسمته((خالد))، مضت أيامٌ لتكتشف بعدها أم خالد أن إبنها يعاني من عيب خلقي في قلبه وذلك كان يعني أن عمر ذلك الطفل الصغير بات قصيرًا في الحياة. في فترة مرض الطفل كانت أم خالد تمكث في بيت أهلها بعد صراع حياة مرير عاشتها مع زوجها الذي لم يعر أدنى إهتمامًا لها أو لطفلها، فتركها وحيدةً كسيرةً في بيت أهلها تواجه أمواج عاتية تعصف بها. خلال فترة مرض الإبن، كانت أم خالد تزوره في المستشفى وفي كل مرة تستقل سيارة الأجرة وتدفع أجرة الذهاب والعودة من قيمة بيعها لبعض مصوغاتها فكانت ترفض مساعدة من أبيها لشعورها المتأصل أن المشكلة تعنيها وحدها. حانت لحظة أجل الطفل الصغير ليرحل عن مشهد الحياة، تلك اللحظة التي زلزلت كيان أم خالد التي أدى توقف قلب إبنها إلى توقف الحياة برمتها في نفسها وهي ترى وليدها يصارع نزعه الأخير عبر زجاجة الإنعاش القلبي ليلفظ أنفاسه الأخيرة فيه.


تعاقبت الأيام بعد رحيل الطفل، حاولت أم خالد استجماع قواها الخائرة لتصل لحل مع هجر ونكران زوجها لها، لم يكن لأم خالد سندٌ في الحياة سوى والدها الذي رافقها للمحكمة ذات يوم لطلب الخُلع من زوجها الذي أبى ورفض تطليقها إلا في مقابل حصوله على أتعاب المهر. قضت المحكمة بالخلع لأم خالد بعد دفع كامل الأجور المادية لزوجها من مهر وحُلي، ليتحول حينها معنى ومفهوم مسمى-الخُلع-كحق شرعي إلى تجارة مادية، وليذهب معه حكمٌ قضائي يتمثل في حصولها على نفقة لها ولطفلها من قبل زوجها أدراج الرياح نظرًا لعدم وجود شيئ يجبر الزوج حينها على التنفيذ.


رفعت الأيام أستارها من جديد في مسرح حياة أم خالد، التي قررت طي صفحة الماضي الحزين لتبدأ معه حياةً جديدة، واصلت أم خالد دراستها في أحد المعاهد الدراسية، حصلت على درجة الدبلوم العالي في تخصص الحاسب الآلي، كانت أم خالد بارزةً في جانب التصميم علاوةً على شغفها بعالم الديكور المنزلي. في لحظة مفاجئة تلقت أم خالد ضربةً موجعة أقضت مضجعها حينما توفي والدها الذي كانت تعتبره سندها وداعمها الأول في الحياة، في الوقت الذي كانت تعايش فيه نار تجاهل إخوتها الذكور وجمرة تنكر أمها لها، فكانت أم خالد ضحيةً لكثير من المشكلات بدءً من تفضيل الذكور على الإناث، وإنتهاءً بأم كانت تميل لبعض الإناث على حساب الأخريات.
 
ذات يوم تقدم رجلٌ للزواج بأم خالد، كانت الفرصة مناسبة جدًا بالنسبة لها على عدة أصعدة، فهي ستتخلص من جحيم حياة في بيت لم تشعر فيه بقيمتها وبوجودها فكانت تحس أنها مجرد عبأ ليس أكثر، وفي نفس الوقت كان حلم أم خالد بأن تعيش في ظل رجل تحتمي وتلتجأ إليه ولكي تعاود ملامسة إحساس أمومة قديم. مرت سنوات على زواج أم خالد وأعاد الماضي البعيد تمرير خيوطه ليجدد معاني بؤس وإبتلاء عصيب لأم خالد التي واجهت خلاله مشكلات نفسية كان زوجها يعاني منها. جاء يوم فرح ليمسح عن جبين أم خالد عناءات ظروفها القاسية لتسمع خلاله صرخة طفلتها التي أتت كقطرة سماء ندية فأسمتها-زهور- لتحاول مع قدوم إبنتها إستنشاق شيئًا من عبير وشذى الزهور، لكن أم خالد تفاجئت بعد مخاضها وهي على سرير المستشفى بعدم تواجد زوجها ليشاركها فرحة قدوم إبنته، ليختلط غبار الخيبة مجددًا مع رائحة أريج مع ميلاد إبنتها-زهور-.
عادت أم خالد مجددًا لطرق باب بيت الأهل، لتطرق معها ناقوس ذكريات ذاكرتها القديمة الأليمة التي أصبحت ماثلةً أمامها من جديد، لتتحمل معها عناء ووطأة نظرة أم كانت تنتظر منها نظرة حانية، ونظرة إخوة ذكور كانت تتعشم منهم بلفتة عطف، لكن خناجر الخيبة لم تفتأ تقطع أوصال روح أم خالد التي كانت يدها ممسكة بيد إبنتها-زهور-فبقيت أم خالد حبيسة في غرفتها، لتبقى غربة الروح وغربة المكان مرافقين لها كأصدقاء حزن وفيّ لا ينجليان عنها. في أحد المرات قرأت أم خالد خبرًا في الصحيفة عن إعلان لمدرسة ترغب بتوظيف معلمات لديها في قسم رياض الأطفال، تطايرت أسارير أم خالد فرحًا وسرورًا لرغبتها في التقديم على تلك الوظيفة، ذهبت تجمع أوراقها وشهاداتها كمن يجمع خيباته القديمة ليصنع منها آمال جديدة، مضت لتقدم على مؤهلاتها لتلك المدرسة لتبدأ بعد أيام وظيفتها الجديدة مصطحبةً معها إبنتها-زهور- لتضعها في روضة الأطفال ولتبقى أمام ناظريها في الوقت الذي تؤدي هي فيه مهام عملها.
 
مضت سنةٌ كاملة بصباحاتها ومساءاتها وليالها، لتتلقى أم خالد ذات يوم خطابًا من إدارة المدرسة يفيد بالإستغناء عن جميع المعلمات اللواتي لا يحملن الشهادة الجامعية، ضجت أم خالد تفكر بقلق حزين جراء ذلك القرار المؤلم بالنسبة لها، ففكرت بمهاتفة مالك المدرسة والذي لم يعر أدنى إهتمامًا بتوسلات إمرأة لا حول لها ولا قوة، فتذرع بقوله أن القرار لا رجعة فيه، خاتمًا حديثه بالإعتذار وإنهاء المكالمة. قررت أم خالد كسر اليأس والإنهزامية، فذهبت تجوب بنشاط أرجاء كثير من المدارس الأهلية لتحصل في النهاية على وظيفة براتب زهيد قارب 1300ريال والذي رغم بساطته لكنه بالنسبة لها كان يعني الكفاف والعفاف عن الحاجة واللجوء لإخوتها الذكور وغيرهم.
 
قبل أيام هاتفتني أم خالد لتخبرني بأنها إستلمت مستحقاتها المالية من المدرسة التي كانت تعمل فيها لتواصل بها دراستها الجامعية عن طريق إنتسابها في برنامج التعليم عن بعد في جامعة الإمام وهنا يتحول حق التعليم لتجارة مادية. أم خالد وضعت نصب عينها تحقيق حلم الحصول على الشهادة الجامعية لتنال معها حقها في وظيفة تحقق وتلبي إحتياجات العيش الكريم.
سعود المحمود

الخميس، 2 أغسطس 2012

بناء العقول قبل تزيين الحقول يا ياسر


صباحُ أحد الأيام لبست الأخواتُ عباءتهن ثم جلسن ينتظرن قدوم ياسر لأخذهن وجلس خلالها خالد وشقيقيه سعد وضاحي يترقبون مجيئه للذهاب
معه للمحكمة لإنهاء ترتيبات أمور الوكالة وحصر الإرث.

وصل ياسر للبيت وجاء في معيته صديقه عبدالإله والذي أتى معه ليساعده في
إنهاء معاملات التوكيل وإجراءاته ثم أخذ ياسر بعدها ينادي أخواته للركوب معه
فطلب من سعد أن يأخذ بعضهن في سيارته والبقية الأخرى يأتين معه.
قبل أن يهم الجميع بركوب السيارة أخذ ياسر يقول لشقيقه خالد: إذهب أنت
وضاحي  مع عبدالإله فسيارتي لا يوجد فيها مكان لتركب فيه.
أجاب خالد بصوت خجل غلفه التردد فقال بنبرة مترددة: المقعد الأمامي خالي بإمكاني الجلوس فيه.
فرد عليه ياسر: ألا تفهم ما أقول لك، المقعد الأمامي للرجال فقط وأنت لست برجل بل ما تزالُ صبيًا صغير لا يجيد سوى الجلوس مع أخواته والحديث معهن
إذا كنت تريد مرافقتي في السيارة فلا مكان لك سوى بالجلوس في المقاعد الخلفية
مع النساء إذا لبست العباءة مثلهن، هل تفهم ماذا أقول لك؟
لا وقت لدي أضيعه لكي أعلمك علوم الرجال، إذهب أنت وضاحي برفقة عبدالإله
إنظر لضاحي فهو يسمع الكلام وينفذه دون تردد، إنه هو الرجل الحقيقي الذي
أستطيع أن أعتمد عليه في المستقبل ليرعى مسؤولية هؤلاء النسوة فأما أنت فلا
أرى أنك كفؤ لمثل هذه المهمة وذلك الأمر.



ذهب خالد برفقة شقيقه ضاحي وركبا سيارة عبدالإله وسار الجميع في طريقهم نحو المحكمة. في الطريق إلى المحكمة أخذ خالد يفكر في كلمات أخيه ياسر فأخذ يتسائل في نفسه:
ماذا يقصد ياسر بكلمته أنه سيعتمد على ضاحي في مسؤولية رعاية أخواتي؟
أي نوع من الرعاية التي يقصدها؟
هل هي رعاية مبنية على التآلف والمحبة أم أنها رعاية مسيّجة بسياج التسلط وحواجز الشك التي يريد زرعها في نفس ضاحي الناشئة؟
ماذا ينوي أن يطبق من مخططات علينا جميعًا بعد إنهاء إجراءات الوكالة لصالحه؟

أخشى عليك يا أخي ضاحي أن تمتد يدُ ياسر الماكرة لروحك البرئية فيلوثك بمفاهيمه المعكرة وأفكاره الملوثة.
يا لهذا الإنسان الجاهل ويا لمدى السخافة التي وصل إليها تفكيره الضحل والمظلم فكيف له إعتبار من يجلس مع أخواته أنه ليس برجل!!

أو كيف له أن يعتبر من يقدم أخته الكبرى للجلوس في المقعد الأمامي شكلًا..
أو صورةً من عدم الرجولة!!
يا لأفكاره المحدودة...
يا لمعتقداته الرجعية...
ويا لتعاريف الرجولة الضيقة في نظره وعرفه بل وفي قاموسه المعرفي...







وصل الجميع لمحكمة الكتابة العدلية ثم شرعوا بالنزول من السيارة، كانت أشعة الشمس ترمي بجمارها الحارة على رؤوس الجميع، كان خالد يتأمل منظر أخواته ونفوسهن الجريحة المختبئة خلف سواد جلالبيبـهن ووهج الشمس الحارق مسلط عليهن ليزيد من تعبهن، كن ينتظرن قدوم ياسر الذي جعلهن واقفات دون تقدير لضعفهن ووهنهن وعجزهن في مثل ذلك الموقف الذي لا يطيقه الرجال الأشاوس فضلًا عن النساء، كن مستسلمات...خانعات...قد أطبق الصمت والسكوت عليهن، كما لو كان ياسر يسوقهم سوقًا لجحيم مجهول.

عاد ياسر لأخواته بعد أن كان فرغ من حديثه العابر مع صديقه عبدالإله، ثم توقف عند باب المحكمة للحظات فأخذ يوجه كلامهم لأخواته قائلًا:
سوف ندخل على الشيخ القاضي الآن، أنصتن جيدًا لما سأقوله، سوف يوجه لكم الشيخ القاضي بعض الأسئلة، مثل هل تقبلن بياسر وكيلًا عنكن في البيع...
هل تقبلن بياسر وكيلًا عنكن في الشراء...
هل تقبلن بياسر وكيلًا عنكن في إقامة الدعاوى...
هل تقبلن بياسر وكيلًا عنكن بالتصرف في الميراث...
ومن هذه الأسئلة، أريد منكن أن تقولن للشيخ القاضي إجابة واحدةً فقط وهي"نعم" فقط"نعم" وأي شيء آخر فالويل والثبور لكن.

أطرقت الأخوات برؤوسهن المرتجفة والمضطربة خوفًا وخشيةً ورعبًا من حديث ياسر فأومئن بالقبول والرضى، دون أن ينبسن ببنت شفه، فألقت عناكب الوهن والضعف عليهن بخيوط الصمت والسكوت الرهيب.



أخذ خالد يتأمل بصمت ذلك المشهد فجعل يقول في نفسه:
يبدو أن هؤلاء الأخوات المسكينات المغلوبات على أمرهن، لن يكون ياسر وكيلًا عنهن فيما سبق فحسب، فهو يريد أن يكون وكيلًا عنهن في التفكير...
وكيلًا عنهن في اتخاذ القرار...
وكيلًا عنهن في ابداء الرأي...
وكيلًا عنهن في التقاط الأنفاس...
بل هو يريد أن يكون وكيلًا عنهن في الحياة كلها حتى يردن لقبورهن...

أي حياة عبودية تلك التي تنويها لأخواتي الضعيفات يا ياسر...
أي حياة مذلة تلك التي تقصدها لأخواتي الأسيرات يا ياسر...
أي حياة هوان تلك التي تخططها لأخواتي الكريمات يا ياسر...
بل أي حياة استبداد التي تريدها لأخواتي المقموعات يا ياسر...

هو يريد أن يكون له رؤيته الخاصة...
هو يريد أن يكون له سلطته الأحادية...
هو يريد أن نسمع صوته هو فقط...
هو يريد أن نرى صورته هو فقط...
هو يريد أن نستنشق نفسه هو فقط...

هو يريد...
هو يريد...
هو يريد...
لكن الله سبحانه وتعالى هو وحده الذي يقضي بما يريد يا ياسر.

دخل الجميع للمحكمة، أحواءٌ من الصمت تخيم على المكان، كانت الساعة تشير للحادية عشر، ما تزال آثارُ شمس الظهيرة ساطعة في مخيلة خالد.
تأخر حضور الشيخ القاضي، جلست الأخوات على كراسي مهترئة كانت بجوارهن، تحسس خالد حرارة العطش وحنظل الظمأ اللذان كان حسيس صوتهما يسري
من بين عروق وأوداج أخواته، سمع خالد صوت رجل كان يبيع الماء عند مدخل
المحكمة، ذهب مسرعًا صوبه ليشتري منه ماء لأخواته، كان ياسر واقفًا برفقة
صاحبه عبدالإله  في فناء المحكمة الخارجي، كان ممسكًا بسيجارته فيمتص سمومها لينفث رمادها يمنة وشمالًا. حمل خالد قوارير الماء التي ابتاعها من البائع وبعد أن هم بالعودة لهن، استوقفه ياسر وقام يوبخه ويعنفه ثم قال:
أيها الأحمق هل تعاني اضطرابًا عقليًا...أم فرط حركة...أم ماذا؟
لقد أخبرتك أن تلزم الصمت والهدوء وتجلس مع النساء، لا أن تقوم باللعب واللهو.
لقد سببت لنا الحرج أمام مراجعي المحكمة، هيا اغرب عن وجهي واذهب واجلس
مع النساء، وإلا سأضع عقب هذه السيجارة في وجهك لتحرقه، هل فهمت ما أعني.

عاد خالد لأخواته، أعطى كل واحدة قارورة ماء لتروي كلٌ منهن عطشها، وأخذ خالد يتأمل كيفية ارتواء عطش اللحظات القادمة التي تنضوي وتختبئ دون معالم واضحة بانتظار قدوم الشيخ القاضي للشروع في شؤون حصر الإرث ووكالة الورثة.
جلس خالد ثم أخذ يحدق في محيط عيني وملامح وجه شقيقه سعد الغارق
في صمت وسكون منذ نعومة أظفاره، جعل يقول في نفسه:
أنت يا سعد ذا قلب طيب جدًا، لكنك ذا نفس ساكته جدًا يا سعد، لا يُرى لك شمس حركة تطلع فتشرق، بل ظلٌ ساكت ينزوي ليحترق فلا يؤجج ولا يحرك
ما حوله من قبور صـامتة وأضرحة هادئة، ليتحول لدخان يعلو ويرتفع لكنه لا يطير... لا يتفاعل...لا ينطلق...نحو الآفاق الواسعة وصوب الرحاب الشاسعة.
آهٍ يا أخي الغالي سعد، لو كانت تسكنك شخصيةٌ قوية لما تمكن ياسر من التجرؤ على ما ليس له حق التجرؤ عليه، والتسلط على ما ليس له حق التسلط عليه.
ها هي ملامح الخنوع الرافعة لرايات الإستسلام لجبروت ياسر المنجرف نحو الجميع أراها باديةً على وجهك الطيب وروحك العطرة يا أخي.
إن سكوتك يقتلني يا سعد قبل أن يقتلك...

إن جليد صمتك يا سعد يذبحني بدم بارد كذبح حيوان أليف لطيف لا يعلو له صوت بل حتى أنين...حينما يكون بين فكي حيوان متوحش يفترش لحمه افتراشًا وافتراسًا...تفوح من عينيه رائحة الغريزة الوحشية في تسلطها واستبدادها، هكذا
تمامًا هي رائحة ياسر يا أخي العزيز.

قطع خالد وميض خياله المتأمل لشقيقه سعد المسرف في هدوئه آنذاك، وأخذ يصوبه تجاه شقيقه ضاحي الذي كان جالسًا بجوار أختهم الصغيرة شيماء، كان ضاحي يلاعب ويمازح شيماء ببراءة الأخوة المترابطة بينهما في ذلك الوقت الذي كان ينتظر فيه البقية قدوم الشيخ القاضي.

نظر خالد نظرة اشفاق أخوية بتأمل القلب الحاني تجاههما فواصل سردياته الكلامية في نفسه المثقلة بالجراح والمليئة بالأتراح فجعل يحدث أرواحهما:
أي مصير ينتظرك أيها القمر الضاحي...أي مصير ينتظرك أيتها الشمس الشيماء...
أي حال ينتظرك أيها الشهد الضاحي...أي حال ينتظرك أيتها السلوى الشيماء...
أي مصائر...وأي أحوال...تحملها غيبيات المستقبل المجهول الذي يرسمه..يخططه ..يظلله ياسر بغمائم مكره السوداء لكما ولبقية الأخوات في قادم الأيام...قادم السنين...


لست أدري يا إخوتي غير أني سأكون مجرد ممارس لدور الصامت الشاهد على جرائم روحية في حقكم جميعًا أيها الإخوة الغاليين.
لست أدري غير أني سأكون ضحية مثلكم لكنها ستكون دائمة مستدامة تعاني الأمرين في قادم حياتها، لكني أرجو أن أكون ضحيةً مخلصةً وفيةً تستيقظ في يوم ما...وتستفيق في لحظة ما...لتنتشل جثثكم وتحمل جثامينكم على عاتقها...على كاهلها بكل الحب الأخوي نحوكم...بكل الشعور الصادق صوبكم...لتعيد إليكم عقولكم التي خطفها ذئبٌ بشري بلباس أخوي لا يرعوي غيه واستبداده...لا ينضوي ظلامه وجهله...لا ينزوي تسلطه وتمكله...لكن يومًا ما سينجلي بؤس وشؤم ذكراه عنا أيها الإخوة الأحباب.

بعد ساعات من الإنتظار وصل الشيخ القاضي للمحكمة، عاد ياسر ورافقه الجميع متجهين للشيخ القاضي، بدأ الشيخ القاضي في الشروع بعملية توكيل ياسر كوكيل
شرعي لإخوته، فأخذ يسأل كل واحدة من الأخوات قائلًا:
هل توكلين المدعو ياسر وكيلًا لك في البيع والشراء....
وجه نفس السؤال لبقية الأخوات، لم تجب أيٌ منهن بإجابة نعم واكتفوا بإيماءة رؤوسهن كإشارة بالرضى والقبول.
كرر الشيخ القاضي سؤاله عليهن مجددًا وطالبهن برفع صوتهن بالإجابة، كررت الأخوات نفس فعلهن السابق.
أجابت الأخوات بصوت خافت لم يسمع دبيب حركته الشيخ القاضي، ألقى على مسامعهن سؤاله:
أنا لا أسمعكن جيدًا، ارفعن صوتكن لو كانت إجابتكن بنعم؟
نطقت إحدى الأخوات بصوت متهدج ومتمزق تخنق أوداجه وتمسك بحبال حنجرته قبضات الخوف والتردد المنبعثة من بين سواد خمار وجهها فقالت:
نعم...نعم...نعم قد رضينا بياسر و...و...وكيلًا عنا.

كرر الشيخ القاضي سؤاله مجددًا على الأخوات ليتأكد من رغبتهن عن كثب وليقف عن قرب من جزمهن بتوكيل ياسر. قاطع ياسر الشيخ القاضي فقال متذمرًا:
أيها الشيخ الكريم، لقد أجابتك إحداهن بموافقتهن كي أكون وكيلًا عنهن فلا داعي
لتكرار السؤال، فضلًا وليس أمرًا فلتنهي معاملة الوكالة فورًا، فلدينا اجراءات
طويلة لإنهاء أمور حصر الإرث.
تدخل عبدالإله فجأة ليجادل الشيخ القاضي وليعزز موقف ياسر ثم قال:
يا فضيلة الشيخ، لقد أعدت سؤالك مرارًا وتكرارًا على هؤلاء النسوة، ولقد أومئنا برؤوسهن أمام ناظريك، وإحداهن أجابتك ثلاث مرات بنعم، فلماذا هذا التأخير
في انهاء اجراءات الوكالة، الوكيل الماثل أمامك هو شقيقهن وهو أدرى وأعلم بأمرهن ومصلحتهن.

أمسك الشيخ القاضي بمطرقته الخشبية فأخذ يطرقها على سندان طاولته ليوقف فوضى مقاطعة ياسر وعبدالإله له فقال:
أيها الإخوة الكرام نحن في محكمة وليس في مكان آخر، هذه اجراءات وكالة شرعية ويترتب عليها أمور مستقبلية عظيمة، أنا حرصت على تكرار سؤالي لهن لكي أتأكد من أن اختيارهن نابعٌ عن رغبة صادقة وبعيدًا كل البعد عن الإكراه.
أعاد الشيخ القاضي سؤاله للمرة الأخيرة على الأخوات اللواتي أطرقن برؤوسهن
المرتجفة لتنطق شفاههن بصوت عانق ظلام الخوف المنزوي بين سواد خمرهن وعباءاتهن ليجيبوا بكلمة متقطعة الحروف، مبهمة الوصوف فقلن:
نعم قد رضينا بياسر وكيلًا عنا.




ثار بركان الغضب الصمت في نفس خالد وتدفقت حمم القهر الكامنة عن الحركة فجأة، فصاح بصرخة متعالية اخترق صدرها كاتمات الصوت المانعة للصدى فجعل يقول في نفسه:
لماذا...لماذا...لماذا أيها الأخوات العزيزات...
لماذا...لماذا...لماذا أيها الأخوات الغاليات...
لماذا...لماذا...لماذا أيها الأخوات الحبيبات...
لماذا...لماذا...لماذا أيها الأخوات الحريرات...

ماذا حل بكن؟
ماذا حل بالعقل الحكيم الجميل؟
ماذا حل بالضمير الحي النبيل؟

ذلك العقل وذلك الضمير، اللذان كنتن تقصصن علي في سالف سنواتي الدراسية حين كنت صغيرًا تلك القصص الرائعة وتلك السرديات الماتعة عن مكانتهما في حياة
الإنسان والبشرية جمعاء...

ماذا حلن بهما؟
هل ماتا تحت أنقاض الماضي؟
أم شردا في متاهات الداني وسرابات القاصي؟
كيف يكون ذلك وأنتن في حضرة الشيخ القاضي...

إلى متى سترضين بحياة العبودية لذلك الياسر!!
إلى متى سترضين بحياة الرق لذلك الياسر!!
إلى متى سترضين بحياة الأسر لذلك الياسر!!
إلى متى سترضين بحياة الإختطاف العقلي من قبل ذلك الياسر!!
ماهو ذلك الضعف...ذلك الخوار الذي تغلغل في نفوسكن!!
ماهو ذلك العمى...ذلك العوار الذي ارتسم في عيونكن!!
بل ماهو ذلك السياج...ذلك السوار الذي التف حول أعناقكن!!

لقد تذكرته الآن....فهو يسكنني...يستوطنني...بل هو سجانيّ...
لقد خامرته في سنين طفولتي السالفة..
لقد ساورته في لحظات شرودي الفارطة...
لقد عايشته في أوقات هروبي من نفسي إلى نفسي...

إنه ذلك الخوف أيتها الأخوات...
ذلك الخوف الذي يختبئ في طياته زلات البشر...
ذلك الخوف الذي تختفي في ثناياه صرخات الحجر...
ذلك الخوف الذي تطفو على سطوحه إشارات الخطر...

ذلك الخوف أيتها الأخوات...لقد ظننت لوهلة أن نبض روحه قد فاض من جسد هذا العالم...
ذلك الخوف أيتها الأخوات...لقد ظننت لبرهة أن سريان دمه قد جف من عروق هذه الحياة...
ذلك الخوف أيتها الأخوات...لقد ظننت لسويعة أن حبل صوته قد اقتلع من حنجرة هذا الكون...

لكن نبض روح ذلك الخوف لم يفض من أجسادنا أيتها الأخوات...
لكن سريان دم ذلك الخوف لم تجف من عروقنا أيتها الأخوات...
لكن حبل صوت ذلك الخوف لم تقتلع من حناجرنا أيتها الأخوات...
ما تزال روحه...دمه...صوته يضربون بأطنابهم في نفوسنا وأعماقنا...
يا لذلك الخوف الذي شتت جمعنا أيتها الأخوات...
يا لذلك الخوف الذي قض مضاجعنا أيتها الأخوات...
يا لذلك الخوف الذي قوى سطوة ياسر أيتها الأخوات...

أين هو قبر ذلك الخوف أيتها الأخوات...
أين هو ضريح ذلك الخوف أيتها الأخوات...
أين هو مرقد ذلك الخوف أيتها الأخوات...
لكي أذهب فأحرقه...أنسفه من هذا الوجود...

إنه خوفنا نحن يا أخواتي...
إنه ضعفنا نحن يا أخواتي...
إنه عجزنا نحن يا أخواتي...
الذي مكن لياسر ذلك التفوق علينا جميعًا...
إنه يتحكم بنا جميعًا...ذكورنا وإناثنا...
أسفي على حالنا التي وصلنا لها أيها الإخوة...
كم تمنيت أيها القاضي أن يكون رأسي قاعدة لمطرقتك، فتضربه لتنفجر صرخات وآهات نفسي المكتومة بل وأفكار وخواطر عقلي المكلومة، التي لم تخدر كباقي
أولئك الإخوة، هي لا تبرح عن تأنيب ضمائرها في كل لحظ وحين..لكن بكل صمت..بكل سكوت...بعيدًا عن الأنظار...بعيدًا عن الأسماع...







واصل الشيخ القاضي حديثه لياسر بعد سماعه موافقة الأخوات لتوكيلهن له قائلًا:
حسنًا أرجو أنك لم تكرههن على أن يختاروك وكيلًا لهن، لكن تبقى أمرٌ آخر لكي نكمل اجراءات الوكالة.
أختك الصغيرة هذه لا يقبل وكالتك عليها لعدم بلوغها سن الرشد، لذا ينبغي أن توكلك أمك بالنيابة عنها فهي الولية عليها.
قاطع ياسر بشدة كلام الشيخ القاضي قائلًا:
هذا هراء محض، كيف يكون ذلك وأنا رجل ولي حق القوامة التي منحها لي الشرع على النساء، كيف يكون للأم أن توكل من تشاء وأنا رجل فضلني الله عليها.
هذا هراء...هذا هراء...هذا هراء أيها القاضي.

أجاب الشيخ القاضي ممتعضًا: وحيك أيها الجاهل، هل تقول عن أحكام الله تعالى هراء محض، استغفر ربك، وهذه أمك فلا تقل كلامًا سيئًا عنها.
ياسر: حسنًا لننهي اجراءات وكالة الأخوات، وسأتدبر مسألة أختي الصغرى وتوكيلها لي من قبل أمي، فأمرهن ليس عسيرًا، هن ضعيفات في النهاية ولا غنى
لهن عني، فأنا رجلٌ وهن نساء.
الشيخ القاضي: حسنًا فلتأتي بأمك وأختك لكي ننهي اجراءات الوكالة.

غادر ياسر وعلامات الإنتصار الماكر بادية عليه، وملامح النوايا الغادرة مرتسمة على محياه، تخطط وتحيك وترسم المحاولات لإنتزاع التوكيل من أمه وأخته شيماء.
غادر الجميع قاعة المحكمة متوجهين للمنزل، وأخذ معها خالد ينتظر ما ستحمله الغيبيات له ولإخوته في قادم الأيام.




أطلت خيوط شمس يوم جديد على نافذة غرفة خالد، كانت جفونه ماتزال هائمة
في أحداث الأمس الذي فر وولى ا لذاكرة الماضي المحفوظة في عقله.
سمع حينها حركة صوت صادرة في صالة المنزل، قام حينها ليتحسس تواجد من في الصالة، كانت أمه جالسة شاردة...حائرة...ساهمة الفكر، كمن يرقب حدوث أمر ما.

كانت الأم تمسك عباءتها بيديّها، مع كل اطراقة تفكير كانت تشد على العباءة بباطن راحة يديّها الغارقتان بتجاعيد الزمان وخريف العمر.
اقترت خالد من أمه أكثر، ألقى عليها تحية الصباح ثم قال بصمت خجل:
ما بالك يا أماه تبدين قلقة ومتوترة؟
الأم: لا شيء يا حبيبي خالد، فقط أنتظر قدوم أخيك ياسر ليصطحبني معه أنا وشيماء لإنجاز أمر توكيله.
ارتعدت فرائصُ خالد فجأة بعد سماع مقولة أمه، فبدت في مخيلته صورة ياسر وهو يجر أمه وأخواته بسلاسل التسلط رغمًا عنهم، وهو غير قادر على تقديم يد العون
والمساعدة لهم.

تحدث خالد لأمه قائلًا: حسنًا يا أمي لماذا لا توكلين أخي سعيد ليكون وكيلًا عنكم أنت وشيماء؟
الأم: بودي ذلك يا بني، إن الشك يساورني من أخيك ياسر، لا أدري لماذا أشعر
أنه يجهز لنا أمرًا ما، لقد رأيت في منامي البارحة حلمًا مفزعًا ظهر لي فيه ياسر، ربما تكون مجرد وساوس من الشيطان وأضغاث أحلام لا تفسير لها.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم منها يا ولدي.




كرر خالد سؤاله مجددًا على أمه فقال:
لم تجيبي على سؤالي يا أمي بشأن توكيل أخي سعيد، صدقيني إنه أمرٌ جيد لكما، فسعيد قلبه طيب وأهلٌ للثقة.
أجابت الأم بحسرة: بودي ذلك يا ولدي لكن....
خالد: لكن ماذا يا أمي؟
الأم: ستكون نظرة أهل أبيك رحمه الله وأبناء عمه ساخرة مني يا بني، سيطلقون راجمات ألسنهم علي، سيقولون عني كيف لزوجة محمد أن توكل ابنها سعيد وكيلًا
لها ولإبنتها وهو أخٌ غير شقيق لبقية أولادها، وكيف لها أن تترك ابنها ياسر فتوكل
غيره. أنت لا تعرف يا بني الحبيب نظرات الإزدراء القاتلة من أبناء عم أبيك، لقد
عانيت الأمرين منها منذ زواجي الأول بابن عم أبيك وبعد أن أنجبت منه اخوتك
بسمة ونهال وسعيد، وبعد وفاته تشردت هنا وهناك، من مكان لآخر، من بيت لبيت، أحمل أحلام أولئك الصغار وآمالهم المبعثرة، حتى استقر بي الأمر بعد
ذلك وتزوجت بأبيك الذي تحدى نقد الجميع له من أبناء عمه وأشقائه، حين رفضوا زواجه بي لأني إمرأةٌ أجنبية لست من أهل هذا البلد فضلًا عن أني أرملة، فتحملت تعاملهم القاسي وشعورهم الجافي نحوي، فارقت إخوتك وهم صغار فتربوا ونشأوا في أحضان الغير من أعمامهم، فصارعت لوحدي يا بني أهوال نيرانهم الحارقة لقلبي، لكني في نهاية الأمر صبرت واحتسبت كل ذلك لأجلكم جميعًا.
بعد ذلك كله يصعب علي يا بني أن أتحمل نظراتهم الحاقدة وسهامهم الكارهة لي، فيما لو فضلت أخاك سعيد على ياسر لأوكله بالتالي كوكيل لي.
لقد بلغ العمر والسن مبلغهما الكبير مني  يا بني...
لقد رسمت تجاعيد الزمان أحافيرها على وجهي المثقل بالهموم يا بني...
أريد أن أرتاح ما تبقي لي من عمري، فليس لدي سعةٌ من القوة لأدخل معترك
مواجهات مع أبناء عم أبيك وزوجاتهم وأقاربهم من جديد، يكفيني ما كان في الماضي.


فاضت مقلتا خالد بالدموع، فانكب على أمه يعانقها ويقبلها بعد سماعه لسيل حزن الماضي الهادر المموج بالجراح والندوب والملون بالآلام والمآسي.
أخذ يقول لها:
لا تحزني يا أماه، فليذهب أبناء العم إلى حيث ألقت، لا تلقي لهم بالًا أو تعطي لهم اهتمامًا، سوف تسير الأمور على خير إن شاء الله، سأبقى طيلة عمري بجانبك
أنت وإخوتي، لن أترككم ما حييت أيتها الأم النبيلة.
نظرت الأم نظر حب لإبنها خالد فعقبت لتقول:
دومًا أرى أنك وريثي يا بني، لقد ورثت مني كثيرًا من الصفات التي لم يرثها عني بقية اخوتك، قلبك صافي ونفسك نقية وشعورك نبيل، تحمل على عاتقك آلام الجميع، فلتبقى كذلك يا بني كما عرفتك.

رن هاتف الأم فجأة، لقد كان ياسر ينتظرها في الخارج، طرق الخوف وضرب القلق قلب الأم المسكينة لسماعها رنين هاتف ياسر، كذلك قلبها الضعيف رن
بأنين القلق والتوتر والتشنج.
استأذنت الأم ولدها قائلة له:
ادعو لي يا بني أن تسير الأمور على خير.
خالد: ليحفظك الله تعالى ويرعاك يا أماه.
نادت الأم على ابنتها شيماء، أمسكت بيدها ثم ذهبتا نحو ياسر المنتظر لهما بشغف، كمن كان ينتظر بنهم قدوم مزيد من الضحايا الأبرياء نحوه ليمارس عليهم القتل اللذيذ في نظره، ذلك القتل النفسي الذي سيمارسه على مدار لحظات وأوقات حياتهم القادمة.




وصل ياسر برفقة أمه وشيماء لقاعة المحكمة، بعد دخولهم نادى الشيخ القاضي على الأم وابنتها لتمثلا أمامه، قامت الأم تمسك بيد ابنتها مستجيبتان لنداء الشيخ القاضي لهما، قام ياسر ليرافقهما في تلك اللحظة، ردع الشيخ القاضي حينها ياسر
وطالبه بالبقاء في مكانه قائلًا له:
لقد ناديت على أمك وأختك فلا داعي لمجيئك، أرجو منك البقاء هادئًا وعدم المقاطعة.

أخذ الشيخ القاضي يوجه سؤاله للأم فقال لها:
هل توكلين ابنك كوكيل شرعي لي ولإبنتك شيماء؟
صمتت الأم للحظات، وقد ارتسمت ملامح التردد على شفاهها التي جففها الوجل
والخوف، فما تزال مطبقة في صمتها وغارقة في سكوتها.
كرر الشيخ القاضي سؤاله مجددًا للأم:
أيتها الأم الفاضلة، لم تجيبي على سؤالي، هل توكلين ابنك ياسر وكيلًا شرعي لك ولإبنتك شيماء؟
أجابت الأم بصوت مبعثر التناهيد وحروف مشتتة المعاني فقالت:
نعم حضرة القاضي، قد رضيت بتوكيل ياسر وكيلًا شرعي لي ولإبنتي.
قال الشيخ القاضي للأم:
أيتها الأم الفاضلة، هذه وكالة شرعية وتترتب عليها أمور مستقبيلة كثيرة، أرجو أن يكون قرار توكيلك مبني على الرضا والقناعة والرغبة، وليس على الإكراه والخوف والتردد، أخبريني لو كان الأمر خلافًا لما ذكرته ولا تخافي من شيء.
أجابت الأم بتردد وصوت متهدج: لا يا سيادة القاضي، قد اخترته برغبة مني دون اكراه يذكر إن شاء الله تعالى.


عقب الشيخ القاضي بقوله:
أيتها الأم الكريمة، الوكالة الشرعية بترتب عليها كثيرٌ من الأشياء التي لا مجال للرجوع فيها بعد الشعور بالندم، بإمكانك التريث قليلًا لدراسة الأمر من كافة جوانبه، ربما تحتاجين لمزيد من الوقت لدراسة الأمر من جميع جوانبه ثم إصدار قرارك النهائي بعد ذلك.
قاطع ياسر حديث الشيخ القاضي بغضب وحنق فلم يحترم أنه في حضرة الشيخ القاضي فقال:
أنت تؤثر على أمي بكلامك يا هذا، من تظن نفسك؟
أنت ليس لك الحق أن تملي عليها ما تريده.
طلبت الأم من ياسر التزام الهدوء، ثم أجابت الشيخ القاضي لتقول:
لا حاجة للتريث يا سيادة القاضي، لقد اتخذت قراري النهائي.
عقب الشيخ القاضي بعدها: حسنًا فليكن كما ترغبين أيتها الأم الفاضلة، وأدعو الله تعالى أن لا يكون هناك ندمٌ في المستقبل لقرارك الذي اتخذتيه بشأن التوكيل.

خرج ياسر مصطحبًا معه أمه وأخته شيماء، في السيارة وأثناء عودتهم للبيت أخذ ياسر يقول لأمه بأسلوب فظ لم يقدر خلاله كبر سنها:
يبدو أن هناك من ملء رأسك بألاعيب ودسائس بأن توكيلي غيري أليس كذلك؟
الآن أنا الوكيل الشرعي عنكم جميعًا أيها النسوة، لقد كان أبي مخطئًا حينما ترك لكم
الحبل على الغارب، تقلن ما تشاؤون، تفعلن ما تريدون.
من الآن وصاعدًا سأعيد صياغة وبناء هذا البيت من جديد بما فيها بناتك اللاتي
يحتجن لمزيد من الرقابة والإنتباه، لكي لا يحسبن أنهن سيـمضين في هذه الحياة
دون أن يكون هناك شمس رجل يرافقهن ليحصي عليهن كل شيء حتى أنفاسهن وأفعالهن.

هكذا أنتن يا معشر النساء يجب أن تكن تحت مجهر الرقابة الدائمة، وإلا ستجلبن الفضيحة والعار والشنار لأهلكن.

في صبيحة أحد الأيام، استفاق خالد مذعورًا وفزعًا من نومه، كان هناك أصوات
آلات حفر وتكسير قد سمعها تصدر من فناء بيتهم، فراغ يجري ليرى ماذا في الأمر. كان باب مدخل الصالة مغلقًا وكذلك بقية الأبواب المؤدية لفناء البيت، ذهب خالد يجري بسرعة لمجلس الضيوف ليرى عبر نافذته شأن تلك الأصوات المزعجة. ما أن وصل وألقى نظرة على فناء المنزل حتى اندهش من هول ما رأته
عيناه. جدران البيت قد تم ردمها،أسوار المنزل تم تحطيمهت،بلاط المدخل تم تكسيره، كذلك حديقة المنزل التي كان يجلس فيها تم قلع أشجارها وعشبها والزهور والورود تمت إزالتها بالكامل. صور من الخراب وأشكال من الفوضى كانت تعم أرجاء فناء وساحة البيت، آلات التكسير والحفر كان بعضها خارجًا والأخرى بداخل البيت.
شاهد خالد أخاه سعيد يخرج من البيت، كان وجهه قد ارتسمت عليه ملامح القهر
وانكسار الكبرياء، كأن خناجر تنقص وازدراء قد طعنت قدره.

في أثناء تحديق خالد لتلك المشاهد، سمع صوت بكاء ونحيب أمه يتقاطر أنينه المتزق بالألم من غرفة المعيشة، ففزع نحوها حتى وصل عندها، أخذ يسألها قائلًا:
ما بالك يا أمي لماذا تبكين، ما الأمر؟
أجابت الأم ودموع الحرقة تذرف من على خديها الغارقتان في تجاعيد الحزن فقالت:
لقد اقتلع ياسر شجرة الزيتون التي كانت في الحديقة، دون أن يستأذنني في ذلك، إنها غالية علي جدًا، لقد كنت في كل صباح آخذ حبات الزيتون لأقوم بعصرها واستخراج الزيت منها لأستخدمه في الطهي وأشياء أخرى.

قطع صوت صفق باب المدخل حديث الأم، فصعق صوته الرعدي مسامع آذان خالد، دخل ياسر لغرفة المعيشة ثم أخذ يوجه سهام كلامه التي مزقت فؤاد أمه
الباكية ليقول لها:
هل ما زلت تبكين وتمارسين بكائك السخيف الذي تعلمته من أفلام ومسلسلات التلفاز السخيفة التي أدمنت رؤيتها، يا لهذه السخافة والسذاجة التي أراها ماثلة
أمامي الآن، هل تبكين على شجرة زيتون.

تبًا لهذا الإحساس السخيف الذي تسكنك...
تبًا لهذا الشعور التافه الذي يعيش فيك...
تبًا لهذه العاطفة الغبية التي تسري في دمك...
بل تبًا لهذا الولد الغبي الذي يجلس لجوارك...
لقد تشرب منك معاني البلادة والحماقة فأضحى كباقي أخواته الساذجات...
يبدو أنك لم تعيّن حديثي لك في وقت مضى حينما قلت لك أني لن أسمح لأحد أن يتدخل في هذا البيت ولو بمجرد رأي.

لقد جائني ابنك سعيد، وحاول أن بيدي رأيه ليثنيني عن قلع الشجرة ويخبرني أن البيت ليس بحاجة لأعمال ترميم، فلم يكن مني إلا أن قلت له كلمة واحدة:
من تكون أنت لتبدي مجرد رأيك في أمور بيتي.

غاد ياسر المكان ليواصل جلوسه مع عمال الهدم والتكسير ويباشر أعمال الترميم. أخذ خالد يواسي أمه التي طعنها ياسر بكلماته الجارحة، فلم يقدره قدرها، ولم يحترم كبر سنها، وهي التي تعبت عليه السنين لكنها لم يبادلها الإحسان بالإحسان، بل أصابها بسهام النسيان والنكران.
أخذ خالد يمسح دموع أمه الجارية كفيض أنهار لا تتوقف، كانت شهقات الجرح الفجيع وزفرات الألم الهجيع تغتال روحها الحزينة.
جلس خالد يحدث نفسه:
هذه أولى سهام خالد بعد أن نال أول أهدافه المتمثلة في تمكنه بالحصول على الوكالة، بدأ بترميم البيت وهو لا يحتاج لترميم أو خلاف ذلك.
بدأ بتبديد أموالنا...وإضاعة ميراثنا...
نحن الآن في نظره بعد نيله التوكيل
مجرد بهائم تركب...
مجرد أبقار تحلب...
بناء العقول يا ياسر هو ما تحتاجه نفسك، وليس ترميم أو تزيين أو تجميل للحقول.
أنت تريد إزالة آثار بيتنا الجملية...
أنت تريد محو معالم بيتنا الجميلة...
لتبني إمبراطورية تسلطك على الآخرين...
إمبراطورية استبدادك للآخرين...
إمبراطورية امتلاكك للآخرين...
تريد بنائها بملامح جديدة على أنقاض ملامحها الأصيلة...

هيهات لك يا ياسر أن يكون لك ذلك...
أقسم لك أيتها الأم النبيلة...
أقسم لك أيتها الأم الطيبة...
أقسم لك أن ذاكرتي ستبقى مسجلةً لكل جرائم انتهاكاته في حقك وحقي وحق اخوتي جميعهم...ذكورهم وإناثهم...
أقسم لك يا أماه أنه سيأتي ذلك اليوم الذي أرد له صفعات الماضي بكل أحزانه...
بكل جراحه...بكل مآسيه...بكل تورماته...بكل التهاباته...بكل تشوهاته التي رسمها على وجوه الجميع.