أم خالد، إمرأة سعودية تعيش في بلد الذهب الأسود، فاللون الأسود كما
أنه يعني لون اللباس الذي تحتشم وتستتر به، فهو أيضًا كان يرمز لسوداوية معاني كثير
من مشاهد حياتها.
أم خالد، إمرأة تقف على بدايات عتبة عقدها الرابع لتطرق بابه دون أن تعلم ما يكون على بقية عتبات عمرها.
أم خالد، إمرأة تقف على بدايات عتبة عقدها الرابع لتطرق بابه دون أن تعلم ما يكون على بقية عتبات عمرها.
أم خالد، إمرأة خاضت تجربة الزواج أكثر من مرة، في أحد زيجاتها رزقت
بإبنها البكر فسمته((خالد))، مضت أيامٌ لتكتشف بعدها أم خالد أن إبنها يعاني من
عيب خلقي في قلبه وذلك كان يعني أن عمر ذلك الطفل الصغير بات قصيرًا في الحياة. في
فترة مرض الطفل كانت أم خالد تمكث في بيت أهلها بعد صراع حياة مرير عاشتها مع
زوجها الذي لم يعر أدنى إهتمامًا لها أو لطفلها، فتركها وحيدةً كسيرةً في بيت
أهلها تواجه أمواج عاتية تعصف بها. خلال فترة مرض الإبن، كانت أم خالد تزوره في
المستشفى وفي كل مرة تستقل سيارة الأجرة وتدفع أجرة الذهاب والعودة من قيمة بيعها
لبعض مصوغاتها فكانت ترفض مساعدة من أبيها لشعورها المتأصل أن المشكلة تعنيها
وحدها. حانت لحظة أجل الطفل الصغير ليرحل عن مشهد الحياة، تلك اللحظة التي زلزلت كيان
أم خالد التي أدى توقف قلب إبنها إلى توقف الحياة برمتها في نفسها وهي ترى وليدها
يصارع نزعه الأخير عبر زجاجة الإنعاش القلبي ليلفظ أنفاسه الأخيرة فيه.
تعاقبت الأيام بعد رحيل الطفل، حاولت أم خالد استجماع قواها الخائرة لتصل لحل مع هجر ونكران زوجها لها، لم يكن لأم خالد سندٌ في الحياة سوى والدها الذي رافقها للمحكمة ذات يوم لطلب الخُلع من زوجها الذي أبى ورفض تطليقها إلا في مقابل حصوله على أتعاب المهر. قضت المحكمة بالخلع لأم خالد بعد دفع كامل الأجور المادية لزوجها من مهر وحُلي، ليتحول حينها معنى ومفهوم مسمى-الخُلع-كحق شرعي إلى تجارة مادية، وليذهب معه حكمٌ قضائي يتمثل في حصولها على نفقة لها ولطفلها من قبل زوجها أدراج الرياح نظرًا لعدم وجود شيئ يجبر الزوج حينها على التنفيذ.
رفعت الأيام أستارها من جديد في مسرح حياة أم خالد، التي قررت طي صفحة الماضي الحزين لتبدأ معه حياةً جديدة، واصلت أم خالد دراستها في أحد المعاهد الدراسية، حصلت على درجة الدبلوم العالي في تخصص الحاسب الآلي، كانت أم خالد بارزةً في جانب التصميم علاوةً على شغفها بعالم الديكور المنزلي. في لحظة مفاجئة تلقت أم خالد ضربةً موجعة أقضت مضجعها حينما توفي والدها الذي كانت تعتبره سندها وداعمها الأول في الحياة، في الوقت الذي كانت تعايش فيه نار تجاهل إخوتها الذكور وجمرة تنكر أمها لها، فكانت أم خالد ضحيةً لكثير من المشكلات بدءً من تفضيل الذكور على الإناث، وإنتهاءً بأم كانت تميل لبعض الإناث على حساب الأخريات.
ذات يوم تقدم رجلٌ للزواج بأم خالد، كانت الفرصة مناسبة جدًا بالنسبة
لها على عدة أصعدة، فهي ستتخلص من جحيم حياة في بيت لم تشعر فيه بقيمتها وبوجودها
فكانت تحس أنها مجرد عبأ ليس أكثر، وفي نفس الوقت كان حلم أم خالد بأن تعيش في ظل
رجل تحتمي وتلتجأ إليه ولكي تعاود ملامسة إحساس أمومة قديم. مرت سنوات على زواج أم
خالد وأعاد الماضي البعيد تمرير خيوطه ليجدد معاني بؤس وإبتلاء عصيب لأم خالد التي
واجهت خلاله مشكلات نفسية كان زوجها يعاني منها. جاء يوم فرح ليمسح عن جبين أم
خالد عناءات ظروفها القاسية لتسمع خلاله صرخة طفلتها التي أتت كقطرة سماء ندية
فأسمتها-زهور- لتحاول مع قدوم إبنتها إستنشاق شيئًا من عبير وشذى الزهور، لكن أم
خالد تفاجئت بعد مخاضها وهي على سرير المستشفى بعدم تواجد زوجها ليشاركها فرحة
قدوم إبنته، ليختلط غبار الخيبة مجددًا مع رائحة أريج مع ميلاد إبنتها-زهور-.
عادت أم خالد مجددًا لطرق باب بيت الأهل، لتطرق معها ناقوس ذكريات
ذاكرتها القديمة الأليمة التي أصبحت ماثلةً أمامها من جديد، لتتحمل معها عناء ووطأة
نظرة أم كانت تنتظر منها نظرة حانية، ونظرة إخوة ذكور كانت تتعشم منهم بلفتة عطف،
لكن خناجر الخيبة لم تفتأ تقطع أوصال روح أم خالد التي كانت يدها ممسكة بيد
إبنتها-زهور-فبقيت أم خالد حبيسة في غرفتها، لتبقى غربة الروح وغربة المكان
مرافقين لها كأصدقاء حزن وفيّ لا ينجليان عنها. في أحد المرات قرأت أم خالد خبرًا
في الصحيفة عن إعلان لمدرسة ترغب بتوظيف معلمات لديها في قسم رياض الأطفال، تطايرت
أسارير أم خالد فرحًا وسرورًا لرغبتها في التقديم على تلك الوظيفة، ذهبت تجمع
أوراقها وشهاداتها كمن يجمع خيباته القديمة ليصنع منها آمال جديدة، مضت لتقدم على
مؤهلاتها لتلك المدرسة لتبدأ بعد أيام وظيفتها الجديدة مصطحبةً معها إبنتها-زهور-
لتضعها في روضة الأطفال ولتبقى أمام ناظريها في الوقت الذي تؤدي هي فيه مهام
عملها.
مضت سنةٌ كاملة بصباحاتها ومساءاتها وليالها، لتتلقى أم خالد ذات يوم خطابًا
من إدارة المدرسة يفيد بالإستغناء عن جميع المعلمات اللواتي لا يحملن الشهادة
الجامعية، ضجت أم خالد تفكر بقلق حزين جراء ذلك القرار المؤلم بالنسبة لها، ففكرت
بمهاتفة مالك المدرسة والذي لم يعر أدنى إهتمامًا بتوسلات إمرأة لا حول لها ولا
قوة، فتذرع بقوله أن القرار لا رجعة فيه، خاتمًا حديثه بالإعتذار وإنهاء المكالمة.
قررت أم خالد كسر اليأس والإنهزامية، فذهبت تجوب بنشاط أرجاء كثير من المدارس
الأهلية لتحصل في النهاية على وظيفة براتب زهيد قارب 1300ريال والذي رغم بساطته
لكنه بالنسبة لها كان يعني الكفاف والعفاف عن الحاجة واللجوء لإخوتها الذكور
وغيرهم.
قبل أيام هاتفتني أم خالد لتخبرني بأنها إستلمت مستحقاتها المالية من
المدرسة التي كانت تعمل فيها لتواصل بها دراستها الجامعية عن طريق إنتسابها في
برنامج التعليم عن بعد في جامعة الإمام وهنا يتحول حق التعليم لتجارة مادية. أم
خالد وضعت نصب عينها تحقيق حلم الحصول على الشهادة الجامعية لتنال معها حقها في
وظيفة تحقق وتلبي إحتياجات العيش الكريم.
سعود المحمود
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق