الأربعاء، 6 فبراير 2013

لطيــــفة



ذات يوم، كانت رابعةُ شمس ذلك النهار تزدادُ وتيرةُ حرارتها شيئًا فشيئا. كان الأبُ جالسًا في مجلس البيت بصحبة ياسر الذي كان حاله بين ذهابًا وجيئة في أحد زوايا المجلس، كان منشغلًا بالحديث مع صديقه عبدالخالق عبر الهاتف. كان الصمت السارف قد ألقى بشباكه على كثير من جسد وجوارح وملامح وجه الأب الذي كان كلُ مافيه يمارس السكوت العميق، باستثناء عينيه المتقلبة في نظراتها في سائر المكان وصوتٌ خجول من تنهدات أنفاسه الخارجة من بين فتحات شبكة صمته المحيطة به. لقد بدى حال الأب الطيب كالإنسان الحي المُسجى داخل تابوتٍ مغلق وصغير عاجزٌ عن ممارسة أي نوع من أنواع الحركة، باستثناء صوت أنفاسه التي كانت تمارس حركتها في نطاق محدود من خلال فتحات تنفس كثيرة لكنها ضيقة جدًا لا تعني أي أملًا بالحياة والنجاة مع تعاقب الوقت عليها، ليرسم ذلك الحال معاني الجمود والخمود والركود الذي يظل ملازمًا لحياة ذلك الإنسان أو ذلك الأب.

فرغ ياسر من مكالمة عبدالخالق، وضع هاتفه على الطاولة في الوقت الذي هم لسانه بإخراج كلمات حديثٍ آخر يوجهه لأبيه الذي كان جسده غارقًا في محيط صمتٍ عميق باستثناء حركة عينيه التي بدت رموشها تمارس شيئًا من تجذيف الحياة.
تكلم ياسر وعلامات الحنق من صمت أبيه باديةٌ على وجه
:
إلى متى سيستمرُ صمتك هذا..؟
بعد دقائق سيزورنا عبدالخالق ليتزوج ابنتك
...
هل من اللائق أن يرى ملامحك متضايقةً كما لو كنت في عزاء ميت
....
هل هذا هو جزائي أني سأساعدك بالتخلص من ابنتك
....
أنت تعلم أنه لم يطرق رجلٌ باب بيتك لحد الآن ليطلب الزواج بها
....
وسوف لن يطرقه أي رجل
....
هل تعلم لماذا يا أبي..؟؟
ببساطة...لأنك لم تعرف كيف ينبغي أن تُربى الأنثى
....
ربيتها على حُب روايات العشق وقصص الحُب الفارغة حتى أصبحت تريد التمرد على الرجال
..
لم تربها على وجوب الطاعة العمياء لإخوانها الذكور
..
ينبغي عليك أن تشكرني بدل أن تذمني عبر صمتك
..
تشكرني لأني سأريحك من عبئ ابنتك الثقيل والكبير
..

لقد اخترت عبدالخالق بدقةٍ وعناية كزوجٍ لها بعد تفكيرٍ طويل..
هو أنسب زوجٍ لها، لكن رغم التمرد والعناد الذي يسكنها فعبدالخالق قادر على ترويضها
..
هو من نفس قريتنا وسيكون خيرَ سترٍ وغطاءٍ لها
..
إنه صديقي وأعرفه غاية المعرفة ولأجل ذلك رأيته خير من يكون زوجًا لابنتك
..
والآن وبعد كلامي هذا
...
هل ما زلت ترى أني لم أخدمك..؟؟
أجبني....

حدق الأبُ الصامت لابنه تحديقةً ظلت شاردةً بين حالين
...
حالُ اللحظة التي ظل يصغي فيها لحديث ياسر له، كانت خلالها جوارحُ الأب الطيب رافعةً لرايات الإستسلام والتسليم لياسر دون تعقيب يذكر
...
وحالُ ماضي تلك اللحظة التي سمع فيها خبر ولادة ابنه ياسر وقدومه لهذه الحياة، فكانت أمطارٌ من الفرح والسعادة والبهجة والسرور قد هطلت على قلب الأب حينئذ
...
لم تتسع رحابة الكون واتساع الوجود في نظر الأب لإحتواء مشاعره المنتشية لميلاد فلذة كبده ياسر
...

كم أنت غريبٌ أيها الحُب...
كم أنت عجيبٌ أيها الحُب
...
بسببك نشعر بقوتنا في الحياة
...
وبسببك أيضًا نشعر بضعفنا في الحياة
...
تكتمل رؤيتنا بسببك وفي الوقت نفسه تعمى عيوننا بل وقلوبنا وبصيرتنا لأجلك أيها الحُب..بل لأجل من نُحبه
..

عاد ياسر لمحادثة أبيه الصامت من جديد، بدى الأب الطيب مخدرًا عن الكلام من حزن لسيادة صوت ياسر عليه، كما لو كان قد استجلب في مخيلته تلك اللحظة الفرائحية حينما كان مخدرًا حينئذٍ، لكن من سيادة صوت صرخات الحياة الأولى لابنه المحبوب ياسر
.
تحدث ياسر: إن صمتك يا أبي هو ترجمانٌ لموافقتك على ما فعلته
...
حسنًا السكوت دلالةُ الرضا كما يقولون
..
فلتصغي لي جيدًا
...
سيأتي عبدالخالق خلال دقائق ومع أهله برفقة المأذون الذي سيعقد قران ابنتك
...


سأذهب لأمي لأقف على تجهيزات النسوة لعقد القران
...
ذهب ياسر لمجلس الضيوف، كانت الأم حاملةً المبخرة تجوب بها أنحاء وزوايا المكان
...
أخذ ياسر يسألها بحزم وحرص: هل كل شيئٍ على مايرام..؟
أجابت الأمُ وهي تنظر لإبنها نظرة اعتزازٍ وشموخ لم يغيب أو يحجب دخان البخور شيئًا من معانيها
:
بالطبع يابني
...
كل شيء يسير وفق ما تريده
...
لا تقلق يا حبيبي
...
لا تقلق يا مهجة قلبي
...
هاتِ غترتك ومشلحك لكي أطيبهما بهذا البخور يا عزيزي
...
كم أنا فخورةٌ بك وأنا أرى مظاهر الرجولة تتفجر فيك
...
إنك تذكرني بخالك فريد
...
إني أراه فيك دومًا
...
سيحسدني أهل عبدالخالق كثيرًا فيك
...



حسنًا...حسنًا يا أمي والآن ناوليني غترتي ومشلحي، عبدالخالق وأهله سيأتون في أي لحظة
...
في ذلك الوقت كان باب البيت يُطرق...
كان الطارق عبدالخالق
...
دلف ياسر للباب واستقبله باهتمام ٍكبير
...

كان عبدالخالق يعمل مدرسًا في المرحلة الابتدائية، في منتصف العقد الثالث من عمره، يهوى لعبة الورق التي يمارسها مع أصحابه الذين يقضي معظم وقته معهم في استراحةً يجتمعون فيها بصفة يومية. كانت أم عبدالخالق اشترطت على ابنها السكن في نفس البيت الذي يقطنون فيه، بعد تخصيص جزء من البيت لهم. كان عبدالخالق هو آخر ابن من عقد الذكور في عائلته، فكانت أمه توليه اهتمامًا وعناية خاصة.

كانت لطيفة أنذاك في غرفتها تستعد ليوم زواجها، كانت تحاول اقناع نفسها برؤيته يومًا فرائحيًا، أخذت مخيلتها المثالية تنسج جميع تفاصيله بكل لحظاته ومشاعره. قررت في تلك اللحظة إلقاء ظروف الواقع الحتمي لزواجها بعبدالخالق، والذي كان يرسمه ويخطط له ياسر ولا أحد سواه، كانت لطيفة تفكر مليًا بكلام معلمتها أسماء بأن تسلم أمرها لله تعالى، وأن ترضخ للمصير المحتوم على أمل الإمساك لاحقًا بقشة أمل تطفو فوق بحر من الضياع النفسي الذي تواجه معه لطيفة أمواج ياسر التسلطية التي ما فتأت تلطمها على الدوام. قررت لطيفة حينئذ محاولة المقاومة لجميع مشاعر القهر والتجبر التي يمارسها عليها ياسر، كانت تستحضر في لحظات تجهزها ليوم الزفاف كلمات رسالة المعلمة أسماء حينما كتبت لها:
عزيزتي لا تنظري لإبتلاءات الأقدار بعيون سوداوية...
قد تكون نار الزوج أقل لهيبًا من نار الأهل
...
قد يكون من الصعوبة قبول الزواج برجلٍ لم يجمعك بها سوى لحظات جلوس سريعة
...
لحظاتٌ سريعة قد لا تسعفك بالتعرف على من سيشاركك حياتك القادمة
...
لحظاتٌ سريعة قد لا تكفي لنكتشف حقيقة مشاعر من ستعيشين معه تحت سقف واحد
...
لكن قد يكون في الأمر خيرةً لك في أن تتخلصي من سطوة ياسر وتسلطه عليك
...
المرأةُ الذكية هي التي تستطيع التغلغل في نفس الرجل التسلل لقلبه لتعرف كيف يفكر
...

قد تمضي سنوات الزواج بالنسبة للمرأة لتكتشف لاحقًا أنها لا تعيش أكثر من عنوسة روح وجفاء مشاعر من زوجها
...
فلتفكري يا لطيفة في كيفية جذب الظروف لكي ياعزيزتي، فقلوب الرجال كأوتار القيثارة، لا يعرف سر عزفها سوى أنامل إمرأة تتحسس مزاجيات تلك القلوب...
فلتكوني في يومِ عرسك كأجمل ما تكونين
...
اسحري زوجك بهيئتك وطلتك وجاذبيتك لتسرقي قلبه من أي مؤثرات قد تطرأ عليها
...
دعواتي لك بالتوفيق يا عزيزتي
.....معلمتك المُحبة

في مجلس الرجال كان ياسر جالسٍ يتحدث بإسهاب مع عبدالخالق، يتجاذب مع أطراف الحديث عن أمور مختلفة، أصوات ضحكاته معه تعلو تارة وترنو تارة، كان الأب الطيبُ حينئذ مازال يمارس دوره الصامت، مع تقليبه لحبات سبحته وكذلك كانت عيناه تتقلب بعفويةً صامتة في النظر غير المباشر لعبدالخالق الذي شعر بشيئٍ طفيف من مشاعر الإحراج التي بدت على محياه. وقتئذٍ قاطع ياسر المشهد القائم بين الأب وعبدالخالق قائلًا:
هذا هو يا أبي عبدالخالق الذي كنت أحكي لك عنه..
والذي كنت تتوق لرؤيته..
إنه من أعز أصدقائي...بل هو أعز صديقٍ لي على الإطلاق..
إنه بارعٌ جدًا في لعبة الورق
..
هو دومًا يغلبني فيها
..
إنه لأمرٌ رائع أن يكون عبدالخالق نسيبًا لنا يا أبي
..
أليس كذلك يا أبي..؟؟
أخذ الأب ينظرُ من طرف صمته الخفي ليتمتم بلسانٍ وشفاهٍ قد جففهما السكوت
:
خيرًا إن شاء الله...خيرًا إن شاء الله
...

بدت علاماتٌ من الخجل على وجه عبدالخالق جراء امتداح ياسر له، بعد لحظات سكوتٍ سريعة أخذ يتحدث للأب الطيب قائلًا: إنه شرفٌ وفخرٌ كبير لي يا عم أن أكون نسيبًا وزوجًا للطيفة...
لقد كان ياسر يحكي لي عنها كثيرًا وهذا ما جعلني أتقدم لك طالبًا الزواج بها
..
حدق الأب لعبدالخالق تحديقةً ساهمة غير منقطعة، أتبعها بتنهيدة صامتة لم يخرج شيءٌ من أنفاسها عن جوف الأب الطيب حتى قال مكررًا كلمته السابقة
: خيرًا إن شاء الله...خيرًا إن شاء الله...

تلعثمت ملامح عبدالخالق من الحيرة قليلًا..!!
أخذ يبحث عن شيء يتحدث عنه بينما يحين موعد رؤيته للطيفة. أخذ يتحدث للأب قائلًا
:
خالي العزيز
...
لقد حدثني ياسر أنه يبحث عن عمل عقب تخرجه من الثانوية العامة وعدم توفقه في الحصول على عمل
...




كما تعلم سوف أكون نسيبًا لكم وهذا يحتم علي مساعدتكم في أي شدائد قد تواجهونها
...
أنا لي علاقاتي الطيبة مع بعض الأصحاب تساعدني في إيجاد فرصة عملٍ لياسر
...
أحد أصدقائي العزيزين علي يعمل مديرًا في شركة طيران، تحدثت له في وقتٍ سابق عن شأن ياسر لأجل أن يعمل معهم
...
ياسر صديقٌ غالي بالنسبة لي، وفي الوقت نفسه سيصبح مستقبلًا خال أولادي، إن لم أساعده الآن فمتى سوف أساعده..؟؟
أخذت ملامح الفرح تتشكل على محيا ووجه ياسر الذي غمز عبدالخالق مبديًا له سعادته بحديثه وفعله...
جعل عبدالخالق يتحدث للأب قائلًا
:
ما رأيك يا خالي فيما ذكرته لك..؟؟
هل أنت مسرورٌ بفعلي هذا تجاه ياسر..؟؟

ألقى الأبُ الصامتُ بنظراتٍ مبعثرة على عبدالخالق تارة ثم ياسر تارة أخرى...
كانت نظرات تلمعُ منها معاني ودلالات أشياء كثيرة
...
ربما كانت تعكس شيئًا من الضعف..
أو شيئًا من الإستسلام..
أو رغبةً جامحةً بالعيش في هدأة وسلام..
أو نوعًا راقي من أنواع الهروب المحصور في حدوده..
كحصرية هروب فأرٍ صغيرٍ ووديع يركض ويركض ويركض داخل عجلة سير هربًا من واقعٍ ظل ملاحقًا له، دون أن يعلم أن هروبه كان محصورًا، وأنه يدور في دائرة هروب تكرر نفسها من تلقاء نفسها، فسيان إن كان يهرب بسرعة أو ببطئ، فالحال واحد والمصير واحد..

جعل الأب يحول نظراته صوب سبحته التي كان يقلب حباتها بشكلٍ مُسرفٍ في بطئه وتؤدته، كان مع كل تقليبة لفصوص سبحته يُصدرُ أنفاس وتنهدات عالية وهادئة الصوت من جوفه الذي كان يتصارعُ فيه نبضُ معاني أشياء كثيرة تارةً بصمت وأخرى بصخب، كما لو بدت تلك الأنفاس والتنهدات كجنود قتال تعيش حالة حرب منتظرة لكن دون معرفة من أي ناحية قد يأتيها الهجوم فمرةً تنشط حركتها ومرةً تخبو...
حينئذٍ واصل الأب تقليب فصوص سبحته وجعل يومأ رأسه بعفوية لعبدالخالق ثم تمتم بكلماته السابقة: خيرًا إن شاء الله...خيرًا إن شاء الله...

في الغرفة كانت لطيفة تحدق باهتمام لا منقطع لخزانة ملابسها..
أخذت ترمي بنظراتٍ على ثيابها وتهذي بكلماتٍ لنفسها..
كانت الحيرة تملؤها عن أي ثوبٍ ستلبسه لتستقبل به أول مرةٍ فارس أحلامها الذي كانت دومًا ترسمه مخيلتها الأنثوية الغارقة في بساتين شاسعة من ورود الرومنسية وأزهار الشاعرية
...
هكذا بدت لطيفة..بل هكذا قررت أن تصبح وتبقى...
إمرأة باذخةً ومبذرةً في رومنسيتها وشاعريتها وإن لم تكن قد تترعرعت في محيط أسرة كان جفاف المشاعر طاغيًا فيها أو محيط دراسة كان قحط العواطف طافيًا عليه
...

كانت لطيفة ترى في تعليق صور الممثلين والشعراء على درفات الخزانة والجدران شيئًا تعويضيًا عن ذبول وخمول المشاعر والأحاسيس من قبل الإخوة الذكور وفي طليعتهم شقيقها ياسر الذي كان أشبه بنبتة الصبار، فهي إن احتاجت لإحتوائه في لحظة خوف فلن تجد سوى أشواكه التي توخزها، وإن هي احتاجت لغيثه في لحظة عطش فلن تجد سوى مائه المالح ليزيد من ظمئها...
هكذا كانت صور الممثلين والشعراء ترمزُ للطيفة بتلك المعاني الغائبة عن قلبها وعقلها، فتنظر للممثل أنه ذلك الشخص الذي يرسم عبر أدواره التمثيلية صورًا من الحُب والعشق، وتنظر للشاعر أنه ذلك الشخص الذي ينظمُ عبر أبياته الشعرية أحاسيسًا من الرقة والرهافة
...

في لحظةٍ ما سقطت عينا لطيفة على فستان كانت معلمتها أسماء قد أهدته لها احتفاءًا بها في حفل تخرج طالبات الثانوية العامة في مدرستها أنذاك. ما أن سقطت نظرات لطيفة على الفستان حتى انجرف من ذاكرتها سيلٌ متدفق من الذكريات والمحطات، فكان مجرد نظرةٍ سريعة لفستان شرخ سور ذاكرتها ليتحول فجأةً من الركود إلى الإنجراف، كسدٍ عظيم تصدع بنيانه من قضمة فأر عابر فأوجعته لتتدفق مياهه من بين الشقوق فجأةً.

أمسكت لطيفة الفستان برفق...جعلت تنظر له بتأملات متبعثرة...
أخذت تنفض بهدوءٍ الغبار عنه بيديها الرقيقتين لتجدد لمعانه
...
كمن ينفض التراب عن ذاكرة ماضيه ليجدد حنين رغبة لها وأحيانًا هجرةً عن ألمها
...

ملابس مناسباتنا الجميلة والحميمية إن تعاقب عليها غبار الزمان، فنحن لا ننسى رائحتها التي تبقى معلقة على مشجب القلب والذاكرة.

ظلت لطيفة تنظر بإسهاب غير منقطع للفستان
...
كان فستانًا زُهري اللون
...
أكمامه قصيرةٌ يحوط أطرافها فصوص وأحجار حمراء وزرقاء اللون
...
كان شكل الفستان من منتصفه لأسفله آخذٌ في الإمتداد والإنتفاش اليسير
...
كان الفستان يشبه حال الطاووس حينما يمتد وينتفش ريشه فجأةً، في لحظة إعجاب حينما يرى نفسه
...
كذلك بدى حال لطيفة لحظة نظرها لنفسها للمرآة وهي ترتدي ثوب مناسبة لقائها المنتظر بعبدالخالق
...
كانت لحظةً امتزجت فيها مشاعر الإنبهار والفرح في نفس لطيفة لدى إحساسها بالجمال الذي أضافه الثوب لشكلها...
في أثناء تأمل لطيفة لنفسها في المرآة، ماجت وهاجت فجأةً أصداء كلمات سابقة لمعلمتها أسماء حين قالت لها ذات مرة:
إن أسهل طريقةٍ لنفس الرجل هو إحساس حُبٍ  تهمسينه في قلبه
...
إن أيسر طريقةٍ لعقل الرجل هو صورة جمال  تطبعينها في ذاكرته
...
إن أغرب ما تحيرين به الرجل هو تجددك الدائم
...
إن أقسى ما تعذبين به الرجل هو أن تعلقي روحه بكِ بخيوطٍ رفيعة، أنتِ وحدك من يرخيها ويشدها
...

أنهت لطيفة تأملها الشارد، ألقت بنظراتٍ أخيرة لنفسها في المرآة، همت بعدها بالنزول للمجلس حاملةً صينية الشاي والقهوة. كانت حركة نبضات قلبها و تنهدات أنفاسها تتسارع مع وقع خطاها المتباطئة في مشيها للمجلس وهي تحمل الصينية بيديها المرتجفتين، بدت لطيفة كانسان يسير على حبلٍ رفيع حاملًا بين يديه عصا لكنها خفيفة لا تساعده على حفظ توازنه.
عند عتبة مجلس الرجال أخفضت لطيفة الصينية قليلًا ومدت يدها لتطرق الباب
...


في تلك اللحظة أخذ ياسر يتنحنح متضجرًا بصوتٍ عالي كزمجرةِ تنين بث دخان الغضب الرُعب في قلب لطيفة التي عادت أدراجها سريعًا لصالة الجلوس
...

فتح ياسر الباب بقوة، أطل برأسه للصالة، كانت عيناه ساهبتان في النظر للطيفة التي كان وجهها يلمعُ بالجمال رغم ملامح الرهبة المختبئةً في عينيها المتشربتان للكُحل. بدى مظهر جمال لطيفة الهادئ العفوي والذي كان يعايش لحظة مواجهة خوف جمعته مع ياسر، يشبه حال جبلٍ جليدي ناصعٍ في بياضه وشفافيته وفجأةً أخذ يذوب وينصهر ويتلاشى بسبب شرر نيرانٍ حارقة لا تعرف الدفء أخذت تتساقط على ذلك الجبل الأبيض لتبخر طُهر براءته ونقاء عفويته.

بعض النيران خُلقت لتبث الدفء والنور في مشاعر النفس، والبعض الآخر خُلقت لتبث الحريق والدخان لمشاعر النفس.

مازال ياسر يلقي بنظراته الحانقة بالغضب على لطيفة والتي كانت الصينية ترتجف بين يديها لتترجم تلك الرجفة معاني الخوف العميق والغريق في محيط لطيفة
.
أطلق لسان ياسر رصاصَ كلماته الهادئة في صوتها لكنها مدويةٌ في سمع لطيفة فأخذ يقول
:
ماهذا المظهر الذي أراه..؟؟
إن هذا ليس مظهر إمرأة يرغب فيه رجلٌ قد جاء لطلب الزواج بها..!!
بل مما لاشك أنه مظهر إمرأة سافرة لا تلقي للحشمة والعفاف والستر أي اعتبارات..!!
والآن اذهبي والبسي عبائتك وغطي شعرك..!!
لا يوجد لدينا بناتٌ يدخلن على رجال ولو كانوا أزواجهن بثياب زينة ومظاهر تبرج..!!
أصغي لي جيدًا
...
حذارِ أن تدعوكِ نفسك لأن تجلسي بعد تقديمك للشاي والقهوة..!!
سوف لن يحتاج عبدالخالق إلا لمجرد نظرة لك..!!
بعد أن تضعي الصينية انصرفي فورًا لمجلس النساء وانتظريني حتى أناديكِ لكي تجيبي المأذون
بالموافقة حينما يسألك عن قبولك بالزواج
..!!
هل تفهمين ما أقول..؟؟

عاد ياسر لمجلس الرجال مخلفًا وراءه غبار خطواته وكلماته التي شرق وغص بها حلق لطيفة التي  لجأت لأريكة تجلس عليها، بدى الصمت سيد تلك اللحظة، أخذت لطيفة تلتقط أنفاسها المخنوقة في جوفها، أخذت دموع القهر والإنكسار تنسابُ وتقطرُ من عينها، كانت دموعها الشفافة قد اختلطت بسواد الكحل لتشكل رسمة حُزنٍ صاخبة في صمتها ومتعالية في سكوتها.
شفافيةُ إحساس المرأة حينما يظلله ويحوطه سواد قهر الرجل يولدُ في نهاية الأمر إنسانٌ صامتٌ هامدٌ لا حياة ولا روح فيه
.




تناولت لطيفة عباءةً كانت بالقرب منها، وقفت حينئذ مقابل المرآة، جعلت تضع العباءة على جسدها المثقل بالجراح والخمار على رأسها المليء بالأفكار. أخذت تنظر للمرآة ومشاعر الإنكسار تلمعُ في عينيها وهي تقول
:
هل من العدل أن أتزوج برجلٍ لم أختره ولم ترتضيه نفسي..؟؟
أم هل من الإنصاف أن لا أتزين في لحظة فرحٍ فُرضت علي..؟؟
إنما أشكو حزني لك يا ألله
...

أمسكت لطيفة الصينية وتوجهت صوب مجلس الرجال، طرقت الباب ثم دخلت مطأطأة الرأس وبخطواتٍ متباطئة ونظرات متسارعة كانت تحاول رميها على زوجها عبدالخالق لتبصر شيئًا من وجهه، لكن النظرة الواحدة لم تكن كافية أبدًا لترسم في عقلها وقلبها صورة وصوت لعبدالخالق، فاكتفت لطيفة وقتها بإبصار وجه أبيها الذي كان صامتًا عن الكلام لكن في نفسه كثيرٌ من الكلام. في اللحظة التي وضعت فيها لطيفة الصينية على الطاولة، رمقها ياسر بنظرة واحدة كانت كافية لترسم في عقلها وقلبها صورة وصوت الخوف، لتعود لطيفة أدراجها لمجلس النساء انتظارًا لحضور المأذون.

في تلك اللحظة كان خالد عائدًا للبيت، فجأةً وعند دخوله لصالة الجلوس لفت سمع قلبه صوت لطيفة وهي واضعةً رأسها على الأريكة وتجهش بالبكاء العميق.
جعل خالد ينظر بصمتٍ لدموع أخته المتوارية بين سواد عبائتها وسواد كحلها وهو يقول
:
قد نحتاج يا أختاه لسوادٍ يغطي شفافية الحزن أو ربما ليُقبر فيه...
إن قهرك مدادٌ لقهري
...
إن كسرك مدادٌ لكسري
...
كذلك حياتك مدادٌ لحياتي
...
لكل صمتٍ كلامٌ يعقبه ولكل ظلامٍ نورٌ يبدده
.

تعالى صوت جرس باب البيت، توقف سيل دموع لطيفة عن الإنسكاب وقت سمعها لصوت الجرس...
كانت نبضات قلبها تخفق وتتسارع وتيرة نبضها أكثر فأكثر مع صوت كل رنة لجرس البيت
...
بعضُ رنينُ الأشياءَ يثير في ذاكرتنا الحنين، والبعضُ الآخر يثير فيها الأنين
.

خرج ياسر مسرعًا ليرى من عند الباب..!!
لقد كان الطارق هو المأذون الذي سيعقد قران العروسين وكان يرافقه أهل عبدالخالق
...
أخذ ياسر يصافح الحاضرين بسرور كبير، ثم اصطحبهم لمجلس الرجال
.
عند عتبة باب الدخول طلب ياسر من المأذون القعود عند أريكة جلوس بقرب مدخل الصالة
...
أخذ ياسر يحدث المأذون على عجالة قائلًا:
انتظرني قليلًا يا شيخ
...
سأدخل للمجلس لآتي بالعريس
..
ارتسمت علاماتٌ من الدهشة والإستغراب على وجه المأذون
..!!
عقب قائلًا:
ولماذا أقعد هنا بينما أنا جئت لكتابة عقد نكاح زوجين..؟؟
أوليس هذا الزواج شرعي وعلني..؟؟
تبرم وجه ياسر بالحيرة
...
أجاب على تساؤل المأذون بقوله
:
بلى..بلى إنه بالطبع زواجٌ شرعي وعلني
.
لكن كما تعرف لو دخلت للمجلس سيكون من الصعوبة بمكان تهيئة العروس لكي تأخذ قبولها في عقد النكاح، لذا رأيت أنه من الأنسب جلوسك هنا بالقرب من باب هذا المدخل الذي ستكون العروس ورائه، حين إذن ستسألها القبول وستجيبك من خلفه.
نظر المأذون لياسر نظرة فاترة من الإستغراب:
حسنًا كما ترى، أنا جئت لعقد قران ليس أكثر من ذلك
.

كان المتواجدون من أهل عبدالخالق آخذين في الحديث والكلام مع والد لطيفة الذي كان حاله متقلبًا ما بين صمت شفاه وإيماءة ملامح وتقليبه لسبحته.
أطل ياسر برأسه من خلف الباب، غمز بعينه لعبدالخالق ليطلب منه القدوم إليه...
انسل عبدالخالق من بين الجالسين المشغولين بالحديث حينئذ
.

أغلق ياسر باب المجلس، أجلس عبدالخالق بجوار المأذون ثم أخذ يتحدث له مجددًا:
هذا هو العريس أيها الشيخ
...
ابدأ الآن بكتابة عقد النكاح ريثما أخبرك بجاهزية العروس لتسمع قبولها بالزواج
.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق