صباحكم
جميل يا أفراد الأسرة الجميلة، يا إلهي دومًا أحب أن أبدأ صباحي بإسهاب النظر لكم،
أرى من خلال عيونكم المعبرة معاني العائلة المتماسكة فهي لا يعرف التفكك سبيلًا
للدخول لعشها الهادئ، فلتبقوا هكذا دومًا لكي أستمد منكم القوة والصبر على مواجهة
قسوة الحياة وجفوة البشر.
أراكم
لاحقًا يا أفراد الأسرة السعيدة.
كانت
تلك كلمات خالد التي يبدأ بها صباح عمله اليومي قبل ذهابه للمصرف، كان يذهب لأحد
زوايا حديقة منزلهم ليتفقد حالة ذلك الهر وتلك القطة وصغارهم، لقد كان منظرهم
جميعًا وهم ملتفين حول بعضهم يجسد رموزًا لمعاني التكاتف والتعاضد والتماسك والتي
لطالما افتقدهم في محيط أسرته، حيث الشتات الذي طغى على كثير من جوانب أسرته وأخوته
بسبب سطوة شقيقه ياسر التي طعنت كافة مشاعر التواصل الظاهري بينهم وبعد رحيل
والدهم.
كان
خالد يرى في مشهد تلك الأسرة الحيوانية كثيرًا من معاني الإنسانية الأسرية العميقة
والتي تلمع في عيون أفرادها، حيث التآلف والتقارب والانصهار في أحاسيسهم والروابط
التي تجمعهم رغم أنهم حيوانات لا عقول لهم يدركون بها لكن رابطة الحس والشعور تبقى
هي الجامعة بينهم.
أنهى
خالد عملية تأمله لأسرة القطط فمضى بعدها في طريقه نحو المصرف لبدء يوم عمل جديد
سيكون حافلًا بالكثير من الأعمال وكذلك الأحداث التي لا يعلم عنها ولكنه سيراها
عبر عين الواقع الذي سيعيش تفاصيله خلال سير أحداث العمل.
رفع
الفرع الستار عن وجهه في صبيحة ذلك اليوم إيذانًا ببدء استقبال العملاء، كانت
أصداء أقدامهم تملأ جنبات صالة الانتظار وكذلك هي أصوات أفواههم التي كانت ما بين
سائل ومستفسر. قدمت جموعٌ كثيرة للمصرف بُغية التسجيل والمشاركة في أسهم إحدى
الشركات المطروحة للاكتتاب العام آنذاك.
في
ذلك اليوم كانت تواجد العملاء في صالة الانتظار قد بلغ مبلغه واكتظت جنبات المكان
بالمكتتبين الواقفين والذين لم يجدوا مقاعد كافية ليجلسوا عليها من شدة الازدحام.
اضطر راجح في ذلك الوقت أن يجمع بين خدمة كبار العملاء من جهة وأن يساعد خالد في
خدمة عملاء الاكتتاب من جهة أخرى فكان يأخذ النماذج والبيانات ويقوم بتعبئتها
لاختصار الوقت والجهد قدر الإمكان. في ظل ذروة توافد العملاء على المصرف تقدم
عميلٌ من بين الزحام وأخذ يسير باتجاه مكتب سعيد عند مدخل الاستقبال والذي كان
يجلس فيه راجح ليقوم بتوجيه العملاء وتسليمهم أرقام الانتظار.
وقف
العميل عند راجح الذي تاه وضاع بين استفسارات وأسئلة العملاء المتعددة. طلب العميل
من راجح تزويده ببعض المعلومات الخاصة بالاكتتاب، كان الزحام حينها يشتد على راجح
الذي لم يجد الوقت لالتقاط أنفاسه ليفي كل عميل حقه من ناحية الإجابة على
استفساره، فوجه العميل السائل أن بإمكانه الرجوع لهاتف خدمة العملاء أو باقي
القنوات الإلكترونية الخاصة بالمصرف وسوف يجد فيها إجابات كافية. ارتسمت علامات
الحنق والوجوم على وجه العميل فلزم الصمت حيال إجابة راجح له ثم ما لبث أن غادر
المكان بصمت.
حان
موعد صلاة العصر وأسدل الفرع أستاره على وجهه الزجاجي الذي كسته أتربة عناء وغبار
تعب ذلك اليوم الذي كان حافلًا بضغوط العمل. جلس راجح يشرب كأس الماء ليروي العطش
الذي أصاب حباله الصوتية التي تأثرت كثيرًا بسبب إجاباته المتواصلة على سيل أسئلة
العملاء المختلفة والمتنوعة، فضلًا عن تنقله الدائم لصالة كبار العملاء لتفقد حال
المراجعين هناك وتأدية خدمتهم على أكمل وجه لتقديم خدمة وعناية مثالية لهم.
في
أثناء جلوس راجح ليرتاح قليلًا و يلتقط أنفاسه المشتتة وأفكاره المبعثرة، رن هاتف
مكتبه فجأة!! وجد حينها تكاسلًا من القيام ليجيب جراء ما واجهه من تعب وعناء فيما
مضى من ساعات العمل لكنه تحامل على نفسه فنهض ثم سار نحو مكتبه في صالة كبار
العملاء ليجيب المتصل...!!!
لقد
كان المتصل عبد الله الذي تحدث له بنبرة غلفها الصوت المرتفع والنبرة الغاضبة
واللغة
الآمرة طالبًا منه الحضور فورًا لمكتبه.
توجه
راجح لمكتب عبد الله وبعد أن جلس تحدث عبد الله له قائلًا:
لماذا
تجاهلت العميل الذي طلب منك تزويده ببعض المعلومات المتعلقة بالاكتتاب؟
تبدلت
ملامح التعب والإرهاق على وجه راجح بعلامات الحيرة والاستغراب فأجاب بقوله:
أنا
لم أتجاهل العميل أبدًا ولو كنت قد تجاهلته لما أجبته على طلبه فورًا الذي وجهه
لي، لقد أرشدته أن يتصل بهاتف العناية بالعملاء وباقي القنوات الإلكترونية كجهاز
الصراف وموقع المصرف.
عبد
الله: هذا غير صحيح فلقد رجعت بنفسي لتسجيل كاميرات المراقبة وحللت في نفسي حركات
كلامك مع العميل وترجمتها أنك تجاهلته، ولو افترضنا ذلك وأخذت كلامك على محمل
الصحة فإن هذا لا يبرر لك أن لا تجيب العميل في حينه.
راجح:
لكن كما رأيت هذا اليوم كيف كان ازدحام العملاء الكبير على الفرع، فلم أرغب في
المقابل أن ينتظر العميل طويلًا ما دام أن خدمته هي عبارة عن إجابة لسؤال بسيط
لكني سأتأخر بالإجابة عليه مما يعني مكوثه لوقت أكثر، لذا وجهته بأسلوب أمثل وفكرة
مبتكرة ليجد إجابات كافية لسؤاله الذي وجهه لي والذي ربما يفتح الباب لأسئلة أخرى
أكون حينها مشغولًا في خدمة عملاء آخرين، ما يعني تعطيلًا لهم.
عبد
الله: اسمعني جيدًا يا راجح...
أنا
المدير المتسيد في هذا الفرع...
أنا
الآمر الناهي في هذا الفرع...
أنا
صاحب القرار والبت في هذا الفرع...
أنا
صاحب الحل والربط في هذا الفرع...
إذن
أنت مجرد موظف لدي يعمل تحت إمرتي ورهن إشارتي ووفق سلطتي...
لست
مخولًا لتقدم أساليب مثالية أو أفكار مبتكرة لسير العمل...
أنا...أنا...أنا
المسئول الأول والأخير عن كل شيء يتعلق بأي شيء...
أنت
تسمع الكلام وتنفذه دون أي تعقيب...
هل
فهمت ما أعي وما أقصد؟
أومأ
راجح برأسه ثم قال: نعم فهمت.
عبد
الله: حسنًا، انصرف الآن.
أوشكت
عتمة المساء على الحلول، كانت شمس الغروب تتمزق خيوطها رويدًا رويدا. كانت أجواء
الفرع صامتة كصمت القبور التي لا حياة فيها ولا حركة تذكر باستثناء حركة خالد الذي
ما يزال ماكثًا فلم ينصرف حيث كان لديه بعض الأعمال والمهام التي اضطر كعادة كل يوم
أن يجلس فيتأخر عن الذهاب لبيته لكي ينجزها.
انتهى
خالد ثم هم بالانصراف لكن عند خروجه من بوابة الفرع أحس بتواجد شخص ما في صالة
كبار العملاء، أثار ذلك الاستغراب في نفسه فهو قد تعود أن لا يتواجد سواه في مثل
ذلك الوقت.
اقترب
خالد صوب باب الصالة ليلقي نظرةً عمن يكون بداخلها فلاحظ أن الباب مفتوح وليس
مغلقًا حيث أن راجح يحرص دائمًا على إغلاقه بعد انصرافه!!!
دفع
خالد الباب فتفاجأ من أن راجح ما يزال باقيًا في مكتبه.
وقف
خالد عند باب الصالة فتحدث قائلًا:
لقد
كنت على وشك الانصراف فلاحظت تواجد شخص في الصالة، ما بالك لم تغادر بعد يا راجح؟
أجاب
راجح بنبرة مخنوقة العبرات: لا...لا يوجد شيء يا خالد، فقط لدي حاجة أنجزها
فاضطررت لأجلها أن أتأخر بالمغادرة قليلًا.
خالد:
امممم لكن تبدو ملامحك شاحبة ومتغيرة تمامًا عن العادة يا راجح، هل هناك أمرٌ
تخفيه عني!!
راجح:
أبدًا لا...لا يوجد يا صديقي.
خالد:
لا تكذب علي يا راجح فأنا أعرف ما بداخلك، عيناك تخفيان خلفها أشياء كثيرة، أرجوك
أخبرني.
ابيضت
عينا راجح من الحزن الذي كان يخفيه، لم ينبس ببنت شفه فظل ساكتًا دون حركة تذكر
باستثناء تحديقه لشاشة جهاز الحاسب. أسرع خالد صوب راجح ليرى ما في الأمر وبعد
اقترابه أكثر نظر للشاشة فقرأ رسالة بريد إلكتروني قد بعثها له عبد الله فاحتوت
على قرار رسمي بنقله لفرع آخر ليباشر عمله هناك.
تفاجأ
خالد من فحوى ذلك القرار فلم يتمالك نفسه ثم عقب بقوله:
لماذا
قرر عبد الله نقلك لفرع آخر؟
صمت
راجح قليلًا ثم تنهد فقال: لا أدري ما هو السبب.
خالد:
كيف ذلك يا راجح لابد من وجود سبب.
راجح:
ربما أراد أن يعاقبني بعد ظنه أني تجاهلت خدمة أحد العملاء الذي قدم لنا اليوم.
خالد:
هذا قرار جائر، أنت لم تتجاهل العميل أبدًا.
راجح:
لم يعد يجدي الكلام الآن يا خالد فالقرار صدر وانتهى أمره.
خالد:
لماذا يا راجح...
لماذا
هذا الضعف متأصلٌ فينا حيال غطرسة عبد الله...
لماذا
هذا الخوار متجذرٌ فينا حيال تمادي عبد الله...
لماذا
هذا الخوف متغلغلٌ فينا حيال سطوة عبد الله...
لماذا
هذا الرعب متجسد فينا حيال سلطوية عبد الله...
بالنسبة
لي يا راجح قد تكون تلك المعاني منطبقة علي فقط دون غيري لأنك تعلم تمامًا ما عشته
من غطرسة،تمادي،سطوة وسلطوية في ظل حياتي وتجربتي العائلية مع أخي ياسر فكان
الصمت،السكوت،السكون،الضعف والإستكانة صفات قد تلبستني من الوريد حتى الوريد فلم
أكن أعلم كيف أقول"لا" بل تعودت أن أقول "نعم" أمام كل شيء
ليترتب على ذلك الاستغلال والانتهازية من الآخرين ليمارسوها علي.
صديقي
العزيز راجح، إني أتحدث لك من واقع رؤيتي لحياتك، أنت تملك علاقاتك الجيدة والطيبة
التي تساعدك فلا تخذلك عند الحاجة وليس مثلي أنا، لا تجعل نفسك يا راجح محتاجة
لعبد الله أو لغيره. أنت دومًا ترفض استخدام تلك العلاقات فتظن أنك ستنال ما تريده
بأنظمة المصرف وقوانينه الداخلية، والآن أقولها لك بصراحة لا تظن ولو للحظة أن
أنظمة وقوانين المصرف ستحميك من أي ظلم يمارس عليك سواء من عبد الله أو غيره،
اعتمد على معارفك وعلاقاتك فهم واسطتك التي لا غنى لك عنها في هذه الغابة المصرفية
وأنت تعلم تمامًا مقصدي.
ها
أنا خير نموذج وأبلغ مثال عندك، لقد مر على التحاقي بالمصرف وقتٌ طويل لم يزد
خلالها راتبي قرشًا واحدًا رغم انضباطي الدائم في العمل...
حضوري
المبكر...
خروجي
المتأخر بعد نهاية ساعات الدوام الرسمي...
مبادراتي
في تحمل تجاهل وتهرب الآخرين عن أداء عملهم...
كل
تلك التضحيات...التنازلات...لم تكن لتشكل ولو نقطة في بحر لدى عبد الله الذي يعلم
تمامًا أني أتحمل عناء جميع ما يتعلق بقسم خدمة العملاء.
نظر
راجح لخالد نظرةً واقعية لكلامه المعبر عن محيط الفرع ثم قال:
صحيحٌ
ما ذكرته يا خالد وقد كنت مخطئًا فيما ظننته سابقًا أنه صواب.
خالد:
وما الصواب الذي كنت تظنه إذن يا راجح؟
راجح:
كنت أظن أن الوضع والحال الإداري مع عبد الله سيكون مختلفًا بحكم أنه مديرٌ شاب
فسيقدر جهد من هم حوله فلا يضطر خلالها الموظفون الآخرون لتحريك علاقاتهم الشخصية
إن أحسوا في أنفسهم أن حقوقهم الوظيفية سوف تضيع هباءً منثورًا فتذهب لأولئك
الموظفين المتخاذلين عن أداء أعمالهم.
خالد:
حسنًا، الآن وقد شاهدت بأُم عينيك ما بدر من عبد الله تجاهك وكيف أنه لم يصدق
موقفك مع العميل فظلمك وقرر نقلك هكذا دون ذكر سبب، فما تنتظر!! لا تسكت له وقم
بالاستفادة من علاقاتك الشخصية لحماية حقوقك وإيقاف قرار نقلك التعسفي شريطة أن لا
يترتب على ذلك ظلمٌ لشخص آخر.
راجح:
سأتريث الآن ولن أفعل شيئًا في الوقت الحالي حتى أرى ما هو القرار المناسب لكي
أتخذه.
خالد:
الأمر لك يا صديقي العزيز، لكن أرجو أن لا تسمح لأحد بالتطاول على حقوقك يا راجح
لكي لا تكون ضحيةً مثلي يضطر للسكوت الدائم والصمت الملازم لسطوة المتسلطين فيرضى
بالبسيط خوفًا ومداراةً على لقمة عيشه رغم فتاتها المتواضع والقليل. أرجو أن
تطمئنني عليك وتريح قلبي يا راجح.
راجح:
لا تقلق بشأني يا خالد، مجرد مشاعرك الأخوية الصادقة تجاهي وتقديرك لحالتي هي أغلى
شيء لدي في هذا الفرع. هيا لنذهب الآن للبيت فلقد تأخر الوقت كثيرًا.
خالد:
حسنًا سأذهب الآن لقد تأخرت كثيرًا كالعادة.
أوووه
نسيت أن أشكرك على وقفتك وتعبك معنا هذا اليوم وتحملك لضغوط خدمة العملاء إضافة
لخدمة عملائك. أنت تختلف كثيرًا يا راجح عن أي موظف عرفته في هذا المصرف، رغم
علاقاتك الواسعة التي تستطيع تجييرها لخدمتك لكنك دومًا تريد أن تصنع اسمك وسمعتك
بنفسك وجهدك لا بنفوس وجهود الآخرين، لكن عيبك الوحيد يا صديقي هو عدم تغلبك على
النعاس والنوم الذي يرافقك عينيك في صباح كل يوم عمل هههه. شكرًا لك من أعماق قلبي
يا راجح على جهد اليوم.
أراك
في الغد يا صديقي العزيز.
قال
راجح في نفسه: كم أنت طيبٌ يا خالد، لكنك تجهل بالفعل حقيقة أشياء كثيرة، لعلك
تعرفها لاحقًا يا صديقي العزيز.
صباحُ
يوم جديد أشرقت فيه الشمس بخيوطها المتجددة بدفئها ونورها لتنبثق وتخترق نسيج
أستار الفرع التي ما تزال مسدلة انتظارًا لحين موعد رفعها ليتم بعدها استقبالُ
العملاء القادمين لإنجاز معاملاتهم المصرفية. توجه خالد لمكتبه حاملًا كعادته
الدائمة في صباح كل يوم سلته التي يضع فيها دلة القهوة وحبات الرطب. بعد جلوسه قام
بالاتصال فورًا على سليم لكي يشاركه شرب القهوة وتناول الرطب. فتح سليم باب غرفة
العمليات النقدية فلمعت مع قدومه خيوط ابتسامته الرائعة التي رافقت خطواته السائرة
نحو مكتب خالد. مذاق القهوة اللذيذة مع رائحة الزعفران العبقة وحلاوة الرطب الجنيّ
تعانقت مع جمالية الصباح الندي.
أخذ
سليم وخالد يتجاذبان أطراف الحديث عن العمل والتعب الذي لاقاه الجميع يوم الأمس مع
ازدحام العملاء على الفرع. أثناء الحوار جاء عزيز لينضم لهما وأخذ يشاركهما تناول
القهوة. استأذن سليم بالانصراف ليواصل بقية أعماله فيما تبقى من الوقت وريثما يحين
موعد بدء الدوام.
وجد
خالد الفرصة سانحة أمامه ليتحاور قليلًا مع عزيز فبادره بقوله:
هل
تعلم يا عزيز، منذ الوهلة الأولى التي رأيتك فيها ارتاح قلبي لك كثيرًا.
عزيز:
لقد أحرجتني يا خالد، بل أنت من يجبر الآخرين على احترامك وتقديرك.
خالد:
قد أكون إنسانًا واضح في مشاعري الداخلية تجاه الآخرين لكني دومًا أحس
أني
لا أخطأ تجاه الأشخاص الذين أحس أنهم يمتلكون صفات مميزة.
لعل
من أكثر الصفات التي شدتني نحوك وكانت مثار إعجابي هي تمسكك بمظاهر
التدين
كإعفاء اللحية وتقصير الثوب والتي رأيت من خلالهما أنك جمعت بين تدين
المظهر
وتدين الجوهر معًا. أحسبك صادقًا والله تعالى حسيبك ولا أزكيك يا عزيز.
عزيز:
يا إلهي أنت تحرجني مرةً أخرى يا خالد، شكر الله تعالى لك حسن ظنك بأخيك.
خالد:
دومًا أتسائل يا عزيز عبر ذاكرتي المليئة بكثير من التأملات والتساؤلات حيال ما
تراه من صفات ومظاهر وتعاملات، أقول في نفسي لو كنت تعمل يا عزيز في مصرف ربوي
بنفس هيئتك هذه، هل سوف تكون نظرة الناس لك مثل نظرتهم تجاه الشخص الحليق والمسبل
لثوبه؟ لقد عرفت كثيرًا من الناس المتدينين في أرواحهم فقلوبهم بيضاء كالثلج لكن
لم يوفقهم الله تعالى أن يتمسكوا بسنة النبي صلى الله عليه وسلم كإعفاء اللحية
وتقصير الثوب لكن الظروف اضطرتهم أن يعملوا في مصارف ربوية، فنظر لهم الآخرون أنهم
سيئون ، بل بعضهم قد ينظر له المجتمع أنه شخصٌ منبوذ فلا ترحيب به بين الناس ما
دام أنه يعمل في مصرف ربوي، الناس نظروا لتلك الزاوية الضيقة ولم ينظروا لواقعية
الظروف وعما إذا كان ذلك الإنسان اضطر للعمل في تلك المصارف مجبرًا أم أنه كابر
وعاند لكي يعمل بها مع وجود خيارات عمل أخرى لديه.
الدين
يا عزيز أصبحنا نتكلم عنه حسب رغباتنا وحاجاتنا الشخصية له وليس حسب معناه الواسع
ومجاله الرحب وأفقه الكبير.
عزيز:
صدقت فيما ذهبت له يا خالد، نحن دومًا نحمل الدين ما لا يحتمله فنرمي عليه جميع
أعذارنا وحججنا، لا نراعي خلاله ظروف الآخرين، نرمي فلان بالكفر وآخر بالفسق، نمنح
براءات الغفران لفلان، وصكوك النيران لفلان، كأننا أوصياء الله تعالى على خلقه،
نحاسب هذا ونعاقب هذا، ووسط كل ذلك ننسى تقصيرنا ونغفل عن ذنوبنا ونتجاوز عن
عيوبنا.
خالد:
هل تعلم يا عزيز، منذ بدأت أيامي الأولى من عملي في هذا المصرف لم أكن أحمل أدنى
شك من أني سأنال مردود تعبي ونتيجة جهدي وأن لا أحد سيصادر ويسرق تضحياتي، لأني
أيقنت أن المصرف تأسس على تحكيم تعاليم الشريعة الإسلامية في جميع معاملاته
وأعماله، لكن مع مضي الوقت وتعاقب الأيام ومرور الأسابيع وتصرم الشهور وحتى هذا
الوقت الذي قضيته في خدمة المصرف، اكتشفت حقيقة تلك الأماني البريئة والظنون
الوردية، حتى علمت أن التطبيق مختلفٌ تمامًا عن النظرية. عرفت أن المصرف لا يطبق
من تعاليم الشريعة الإسلامية سوى قشورها ولا يعلم منها سوى ظاهرها فقط ليس أكثر. اكتشفت
أن هناك عشرات بل ومئات الموظفين يعيشون تحت وطأة مدرائهم المتسلطين الذين يسرقون
جهودهم، وآخرون يعانون الأمرين في الحصول على أبسط حقوقهم من الترقيات لأن ذنبهم
الوحيد أنهم لم يمتلكوا الواسطة والعلاقة الشخصية كغيرهم من الموظفين الآخرين
الذين نالوا ما لا يستحقونه دون أن يبذلوا جهدًا يذكر. آمنت أن المصرف يتاجر
بتعاليم الشريعة الإسلامية فيأخذ منها بحسب احتياجه لها فهو استغل شعارات ومبادئ
الصيرفة الإسلامية مداخل للتكسب والتربح وليس لغرض نشر مفاهيم الصرافة الإسلامية
لتحل مكان المصرفية الربوية التقليدية. أيقنت أن هناك أناس قد يفضلون العمل في
المصارف الربوية لأن المسئولين في المصارف التي تصرح بإسلاميتها شوهوا صورة تطبيق
تعاليم الشريعة الحقيقية السمحاء في معناها الأصيل والواضح فحصروها في مجال
المعاملات وأبعدوها عن مجال السلوكيات والعلاقات بين الرؤساء والمرؤوسين...المدراء
والموظفين.
أدركت
أن المصرف الإسلامي الحقيقي يا عزيز هو ذلك المصرف الذي يحقق معادلة الشريعة
الإسلامية من خلال مساواة أطرافها مع أوساطها، فلا يوجد اختلال بين الوسط والطرف.
هو المصرف الذي لا يبيح ظلم الموظفين وهضم حقوقهم ومصادرة جهودهم، الذي يقدر
تضحيات المجتهدين ويكافأ الأفراد المخلصين في أداء أعمالهم والمتفانين في إنجاز
مهامهم. هكذا ينبغي أن يكون المصرف الإسلامي الحقيقي ما دام أنه جعل من الشريعة
الإسلامية الغراء شعارًا دائمًا له يا عزيز، لذا فلابد أن يطبقها بمفاهيمها
الشاملة ومعانيها الكاملة دون بتر بعضها عن بعض.
عقب
عزيز بعد حديث خالد المستفيض والمستطرد في أحزانه الخفية فقال:
إني
لا أخالفك فيما ذكرته يا خالد، لقد وجدت في حديثك كثيرًا من نقاط التناقض
الموضوعية والمنطقية معًا، لعل الله سبحانه وتعالى كتب لنا خوض هذه التجربة ليعرفنا
من خلال الواقع المُشاهد على نماذج البشر كيف أنهم يسيرون ويجيرون كثيرًا من
تعاليم الدين لمصالحهم الشخصية وأهدافهم النفعية والدين منهم براء.
فلنحمد
الله تعالى على كل قدر وقضاء يكتبه لنا يا خالد ولنستلهم منه العبر والفوائد لنصحح
مفاهيمنا ونوسع مداركنا فديننا الإسلامي العظيم أوسع من أن نحصره في فلك واحد...أو
نموذج واحد...أو قول واحد. الدين ثابت يا خالد لكن آراء البشر دومًا هي التي تختلف
فلا تثبت. يا إلهي لقد مر الوقت سريعًا ولم نشعر به يا خالد، لم يتبق سوى دقائقُ
بسيطة يا عزيزي ويفتح الفرع أبوابه لاستقبال العملاء ولدي بعض الأعمال أنجزها قبل
ذلك. سررت جدًا بالنقاش معك يا خالد، لحديثنا بقيةٌ إن شاء الله تعالى.
أستأذنك
الآن بالانصراف.
خالد:
حسنًا يا عزيز أراك لاحقًا يا صديقي.
في
صباح اليوم التالي، كان خالد مستغرقًا في إنجاز بعض التقارير والمعاملات.
رن
هاتف مكتبه، لقد كان المتصل رائد.
أجاب
عليه: صباح الخير مرحبًا بك يا صديقي، لم أسمع صوتك منذ فترة.
رائد:
أهلًا بك يا خالد، أعتذر لقد كنت مشغولًا في الفترة الماضية، فالذي يعمل تحت إدارة
سليمان لا يذوق طعم الراحة أبدًا، حيث الأعمال والمهمات لا تنتهي.
قهقه
خالد بالضحك قائلًا: إذن أنت موظفٌ كادحٌ مثلي، تضطر لتأدية جميع الأعمال سواء
كانت لك أم لغيرك؟
رائد:
صدقت لحد قريب لكني مختلفٌ عنك تمامًا يا خالد.
خالد:
كيف ذلك؟
رائد:
لقد أخبرتك سابقًا أنك شخصٌ كتوم وصامت حيال أي شخص قد يمارس عليك أشكال من الاستغلال
أو صنوف الانتهاز فتضطر لتأدية عمل ليس لك، ما عدا مشاعرك الداخلية فأنت شفافٌ
فيها وتعبر عنها تجاه الآخرين. أنا مختلفٌ عنك في الشق الأول، لا أسمح لأي أحد أن
يرمي علي بأعماله وواجباته لأؤديها نيابة عنه، صحيحٌ أني أعيش تحت ظل إدارة سليمان
المتغافل النفعي، لكني لا أسمح لأحد أن يستغلني أبدًا، في هذا الفرع أنجز عملي فقط
ولا شيء غيره.
خالد:
أنت دومًا تقرأ أفكاري يا رائد.
رائد:
أعلم يقينًا أن الرهاب والتردد الذي يسكنك حيال استمرارية استغلال وتطاول الآخرين
عليك ليرموا عليك مهام وأعمال لست مضطرًا لعملها إنما هو امتداد لتجربتك الحياتية
التي مررت بها في محيط أخيك ياسر، إضافة لنماذج ضعف وسلبية الشخصية التي رأيتها في
إخوتك. كل ذلك يا خالد يتراكم على شخصية الإنسان فتبرز النتائج السيئة في تعاطيه
مع الآخرين الذين لا يتوانون لحظة عن افتراسه.
يجب
عليك أن تصارح نفسك بهذه النقطة السلبية فيك التي ستشكل معضلة صعبة لك في مستقبلك
العملي.لا تفهم من كلامي أني أقصد أن تكون وقـحًا أو بجيحًا، بل كن
حذرًا..يقظًا..فطنًا ومواجهًا لكل من يحاول استغفالك لتمرير أمور عليك ليستخدمك
جسر عبور فتكون في النهاية أنت وحدك المجرم العلني والضحية الخفية. قد لا تكتشف
تلك العيوب فيك في الفترة الراهنة بسرعة، ربما ستحتاج لضربات وصدمات من نوع خاص
لتعيد التعرف على من هم حولك وفي نفس الوقت تعيد صياغة كيانك النفسي والروحي والفكري
في آن واحد.
خالد:
فهمت كلامك جيدًا يا رائد، أنت تعرفني تمام المعرفة والأمر كله عبارة أن ذاكرتي
تعيش ضجيج صراعات الماضي الأسري مع الواقع العملي، لا أستطيع الفصل بينهما، حاولت
كثيرًا ولم أفلح.
رائد:
لا تقلق تجاه هذا الأمر، أخبرتك بأن الوقت كفيلٌ لتعيد السيطرة على نفسك من جديد
وتتحكم بعدها في إدارة عقلك وقيادة نفسك بالشكل السليم. حسنًا دعنا من هذا الأمر،
هل سأراك غدًا في اجتماع موظفي المصرف في الفندق؟
خالد:
أي اجتماع؟
رائد:
ألم يخبرك عبد الله أن هناك اجتماع تعارف سيقام في الغد؟
خالد:
لا لم يخبرني بذلك.
رائد:
يا له من مدير دنيء، ظننته قد أخبركم، الدعوة موجهة منذ نحو شهر لكني تفاجأت أن
كثير من مدراء إدارات وفروع المصرف لم يخبروا موظفيهم بذلك.
حسد
وطمع المدراء لا ينتهي، يريدون أن يستأثروا بكل شيء لصالحهم بعيدًا عن الموظفين
البسطاء الذين لا يبقى لهم سوى الفتات، فلا يريدونهم أن يحضروا حتى مناسبة اجتماع.
خالد:
وما الفائدة من حضور هذا الاجتماع طالما أن مبادئهم الكذب وشعاراتهم النفاق وقيمهم
التصنع، لا مكان لنا نحن الموظفون الكادحون بين هؤلاء.
رائد:
أقصد إنها فرصة سانحة، ربما يستطيع موظف بلباقة أسلوبه ومرونة شخصيته كسب أحد
المدراء لصالحه فينال ترقية في منصبه أو زيادة في راتبه.
خالد:
وكيف سينالها يا رائد؟
بالكذب
الزائف...
بالتملق
المقيت...
بالنفاق
الرخيص...
رائد:
ليس الأمر كما تظنه هكذا يا خالد، في أحيان معينة يجب عليك أن تجامل محيطك العملي،
وما المشكلة فيما ذكرته لك ما دام أنك لن تؤذي أحدًا وستنال منفعة عبر مساعدة مدير
لا تعرفه ويكون طيبًا فيقدر جهدك، في الوقت الذي لا يقدر فيه عبد الله دقيقةً
واحدة من تضحياتك المستمرة لخدمة الفرع.
خالد:
لا أستطيع يا رائد إتقان تلك الفنون، لأني لم أتعلمها أبدًا ولم يربني عليها أبي
رحمه الله تعالى.
صحيحٌ
أني لم أنل زيادة في أجري...
أو
ترقية في عملي...
أو
حتى إيماءة تقدير...
أو
كلمة شكر...
لأن
أنظمة ولوائح وتعليمات هذا المصرف جميعها حبرٌ على ورق رغم زعمه تطبيق
تعاليم
الشريعة الإسلامية في تعاميمه المتعاقبة لكن واقعي...بل وواقع كثير من الموظفين
خلاف ذلك تمامًا. لم أحصل على ترقيتي الحقيقة في جانب دراستي أو أسرتي أو عملي،
كنت دومًا أعيش على الهامش الضيق والظل المنزوي في تلك الجوانب لأسباب مختلفة،
لكني مؤمنٌ بأن الله تعالى سيمنحني تلك الترقية الحقيقة...الترقية البليغة في ركب
الحياة القادمة التي أنظر لها بتفاؤل يعانقه الأمل مادمت ثابتًا على مبادئي التي
تشربتها منذ نعومة الأظفار.
رائد:
خالد كلامك جميل...بديع ذو معاني خلابة...لكنه في نفس الوقت كالخنجر المؤلم في
معناه ونظرتنا لواقع تطبيقه في أشكال حياتنا المتعددة. على كل حال لحوارنا تتمة يا
خالد، سنفتح الفرع بعد قليل.هل ستأتي لاجتماع الغد؟ لابد أن تحضر.
خالد:
سأكون حاضرًا إن شاء الله تعالى فقط لأجل أن أراك لأول مرة يا صديقي ،فأنا لم
أعرفك إلاّ عبر سماعة الهاتف، لذلك سوف آتي لرؤيتك، وليس لأجل حضور مسرحيات عرض
المدراء الكاذبين فهي تعرض أمامي خلال ساعات العمل اليومي.
قهقه
رائد ثم ختم حديثه: حسنًا أراك في الغد بإذن الله.
خالد:
وهو كذلك إن شاء الله تعالى.
رائد:
إلى اللقاء.
في
صبيحة يوم الاجتماع، استيقظ خالد مبكرًا، تناول طعام الإفطار، استبدل ملابسه وأخذ
يجهز نفسه للذهاب للفندق. جعل يبحث في أدراج خزانة غرفته عن قارورة عطر ذات نوعية
فخمة كونه سيلتقي بمدراء على مستوى كبير ودرجة رفيعة من المنصب والشأن في المصرف،
ومن خلال عمله المصرفي في مقابلة الجمهور كان المصرف يركز كثيرًا على جانب المظهر
الشخصي للموظف ليبدو في أجمل صورة أمام العملاء والمراجعين.
أثناء
بحث خالد المستفيض بين أدراج الخزانة، لفت نظره وجود كيس بداخله علبة قد غلفت
بإحكام!!!
جلس
يحدق فيها ويفكر في أمرها ثم تسائل في نفسه:
ما
الذي بداخل هذه العلبة يا ترى؟
ومن
الذي جاء بها إلى هنا؟
ربما
كانت العلبة تخص أمي وضاعت منها فكانت تبحث عنها.
حسنًا
سأذهب لأمي لأتحرى الأمر.
ذهب
خالد لأمه ليعرض عليها العلبة ثم بدأ يستفسر منها عما لو كانت تخصها، أبلغته أمه
أنها هديةٌ جاء بها صديقه "مخلص" ولكنها نسيت أن تخبره بذلك فوضعتها في
خزانته أثناء غيابه. عاد خالد لغرفته متفاجئًا من كلام أمه ففتح العلبة ووجد فيها
قاروة عطر فاخر، كان شذى العطر يحبس الأنفاس بعبيره الندي.
جعل
يقول في نفسه: يا إلهي إنها هديةٌ رائعة من صديق وأخ غالي ورائع، لقد جاءت في وقت
كنت أبحث فيه عن عطر، إن طيب هدية هذا الرفيق الوفي سبق عبير وطيب هذا العطر
بكثير.
مضى
وقتٌ طويل لم نلتق فيه يا مخلص،لقد كانت آخر مرة اجتمعنا فيها سويًا قبل نحو خمس
سنوات عندما ذهبنا لأداء مناسك العمرة ليقتصر تواصلنا فيما بعد عبر الهاتف.
لقد
سرقتنا هذه الحياة يا مخلص بمشاغلها من أن نجدد التواصل بيننا، أنت نعم الرفيق
الصالح في السفر الصالح...
لقد
سرقتنا هذه الحياة يا مخلص بملاهيها عن تحسس روعة معاني الصداقة الأخوية النقية
والصافية....
أعدك
أن ألتقي بك عما قريب يا صاحبي العزيز.
شرع
خالد بالخروج من المنزل، أثناء ذلك تناهى لسمعه صوت أمه في صالة الجلوس
تناديه،
ذهب ليلبي ندائها فأوصته أن يمر لمحل المواد الغذائية لشراء بعض أنواع الفاكهة،
وطلبت منه أن يجلب لها شيئًا من ثمار فاكهة ((الجانرك)) حيث كانت تحبها كثيرًا.
انصرف
خالد بعد ذلك وركب سيارته فجلس حينها يفكر عن مكان يجد فيه فاكهة الجانرك، حيث أنه
في آخر مرة ذهب للتبضع في المحل لم يجد الفاكهة متوفرة لديهم، إنها فاكهةٌ طيبة
يعود موطنها الأصلي لبلاد الشام فهي طيبة كطيب أصل تلك الديار.
حسنًا
لا مشكلة يا أمي سوف أجلبها لك لو كلفني ذلك تجشم عناء التعب لأجلك، إني لأتعذب يا
أمي في كل لحظة حين أتذكر الصعاب التي لاقيتها في ولادتي وتربيتي، ليس ثمة جميل
يوفي عظيم حقك علي أيتها الأم الغالية....
ما
زلت أتذكر يا أمي ذات يوم حين قمت بإيصالك للمستشفى لتراجعين موعدك مع الطبيب، لقد
كان يومًا عصيبًا ومريرًا على روحي يا أماه....
كلـما
تذكرت أنين حبال صوتك المتقدم في عمره
المثقل
بالتعب...
المثخن
بالهم...
المحمل
بالألم...
قد
أحاطت به خيوط المشقة وغلفته أنسجة الوهن...كلما استجلبت ذاكرتي الموبؤة يا أمي
بشتى صور النصب...وصنوف مشاهد الوصب أتحسس وقتها وخز أشواك ذكرى تلك اللحظة
القاسية، لقد عجز النسيان مني يا أمي ليمحو طعم تلك اللحظة فهي كحنظل تجرعه ظمآن
يهيم في صحراء قاحلة بحثًا عما يروي عطش ذاكرة قد أصابها جفاف القلق والتوتر عليك
حينها.
إني
أحترق بنيران الضمير النفسي في كل يوم يا أماه...
إني
أتعذب بسياط التأنيب الروحي في كل ليلة يا أماه...
إني
أتألم بخناجر الملامة وطعنات العتاب في كل لحظة يا أماه...
إني
أتهاوى في واد سحيق لا قرار له يا أماه فتراب تقصيري تجاهك وغبار إجحافي صوبك يهب
علي برماده كل لحظة ليعمي عينيّ وتتقاطر حينها دموعي بغزارة لتحاول عبثًا غسل
أوساخ ذنوبي...وتنظيف جراثيم خطيئاتي المنبعثة من نفسي الدنيئة لتطعن فؤادك النقي
وقلبك الطاهر بكل أنواع عقوقي في حقك...
سامحك
الله يا ياسر حينما جرحت قلب هذا الأم الضعيفة فلم تقدر عجزها وكبر سنها، تزوجت
وبخلت أن تخبرها بزواجك لتفرح لك فكانت آخر من يعلم.
أعدك
يا أمي أن أبقى على عهد البر والوفاء لك أبدًا ما حييت.
فليحفظك
الله تعالى لي، فأنت الحب الصادق والأمل الباقي لي في هذه الحياة.
وصل
خالد للفندق، أوقف سيارته ثم ترجل منها سائرًا صوب المدخل. في بهو الاستقبال كانت
أصوات مختلفة تدور أصداء رحاها هنا وهناك، نوافير برك الماء كان صوت خريرها يمارس
حركته بكل تؤدة وانسيابية دون ضجيجٍ يذكر، أصوات أجراس المصاعد كان تقرع معلنة
صعود أشخاص ونزول آخرين ما بين زائرٍ عابر للفندق وما بين نزيلٍ مقيم، أبواب الغرف
هي الأخرى كانت أصوات فتحها وغلقها يجوب صداها عبر نسمات هواء التكييف المركزي
المنبعث في أرجاء بهو الفندق، قرع أحذية أقدام المارة والسائرين كانت تعلو تارة
وتدنو تارة أخرى.
حركة
تلك الأشياء والأصوات كانت ساكنةً في كينونتها رغم مرئية شكلها لمن ينظر لها،
لكنها تمارس ذلك الضجيج الصامت في هيئته، كالإنسان الهادئ فهو صامت في مظهره لكنه
يعيشُ صخب أفكاره التي تجري كجريان الدم في العروق فما يلبث أن يسري ليتوزع في
أوردة الجسم وشرايينه، وضوضاء خواطره فهي كالقلب ينبض سريعًا إذا اضطربت حركة
مشاعره ثم ما يلبث أن تهدأ وتيرة نبضه لتتباطأ
كأشرعة عقارب طواحين الهواء حينما يخف هبوب الرياح عليها فتستكين حركتها
وتخف.
سار
خالد صوب قاعة الاجتماع وكان البابُ مغلقًا، سمع حينها أصوات أشخاص جالسين
بالداخل، فكر أن يدخل لكنه تردد ثم أخذ يطرق الباب ليُأذن له بالدخول، لكن دون أن
يجيب أحدهم عليه!!!
قرر
خالد الدخول للقاعة في تلك اللحظة...
دفع
الباب بخفة وأطل برأسه ليلقي نظرة للداخل، لقد كانت الأصوات الصادرة هي لعمال
الفندق حيث كانوا مشغولين بإعداد طاولات وكراسي الاجتماع، يضعون المفارش عليها،
يصففون باقات الزهور وأكاليل الورود، ويوزعون قوارير وكؤوس الماء والعصير.
ظن
خالد لوهلة أنه أخطأ في مكان القاعة، تسلل الشك في نفسه...
جعل
يسأل أحد العمال: سيدي الكريم هل هذه هي قاعة الاجتماع التابعة للمصرف الفلاني،
حيث أن هناك اجتماع مقررٌ انعقاده في تمام الساعة العاشرة؟
كان
العامل يمسك بمكنسة كهربائية وفي نفس الوقت كان يحدق في وجه خالد!!!
ارتسمت
ملامح ابتسامة عفوية التقاسيم على محياه.
أطفأ
العامل المكنسة واعتذر بلطف لعدم سماعه سؤال خالد الذي أعاد عليه سؤاله مكررًا.
أجاب
العامل: نعم يا سيدي هذه هي القاعة المخصصة لاجتماع هذا اليوم.
تشكر
خالد بعمق تعاون ولباقة ذلك العامل الذي عاد لتشغيل مكنسته مواصلًا عملية تنظيف
سجاد القاعة، وكذلك بقية العمال كانوا مشغولين ومنكبين في إكمال أعمالهم... أحدهم
يلمع زجاج الطاولات وآخرُ يمسح الغبار عن النوافذ وهكذا.
أخذ
خالد يحدق في ذلك المشهد بتأمل شديد فجعل يقول في نفسه:
يا
إلهي كم هم عظماء هؤلاء البشر، لقد تجشموا عناء التعب ومرارة الغربة، تركوا الأهل
والأحباب والديار والأوطان لأجل حفنة بسيطة من الأموال، لا تمثل أحلامهم أو آمالهم
كذلك.لله درك يا مهران، دومًا أرى أنك لو تغيبت أنت أو عمال النظافة عن فرعنا
يومًا واحد، لانتكس حال الفرع رأس على عقب ولعمت الفوضى، على عكس غياب عبد الله أو
من هم على شاكلته، فحضورهم وغيابهم سيان فلا أثر له كغيابك أنت والبقية.
حينما
تغيب عن العمل يا مهران، لن نجد شخصًا يعد لنا الشاي والقهوة.
عندما
يغيب عمال النظافة كذلك، لن نجد شخصًا ينظف ويرتب لنا المكان.
وفي
نهاية المطاف تضربون أروع معاني الإنسانية العظيمة والدروس السامية
فرغم
قلة أجوركم...
ورغم
نفوسكم المسحوقة...
ورغم
سلطوية المدراء...
ورغم
استفزازية الحرمان...
ورغم
ذل الحاجة...
ورغم
مرارة المنع...
تبقى
الابتسامة العفوية والملامح البسيطة حاضرةً فلا تغيب عن محياكم.
خرج
خالد من القاعة وتوجه لبهو الفندق لتناول شيء من القهوة ريثما يحين قدوم الجميع.
انتهز خالد الفرصة ليتصل على صديقه رائد ويلتقي به على هامش مناسبة الاجتماع، حيث
لم يسبق لكليهما أن رأى الآخر من قبل فكان تواصلهما السابق مقتصرًا عبر أثير
الهاتف فيما يخص صعيد العمل، لكن رائد لم يجب على اتصال خالد، الذي ظن أن رائد
ربما لم يصحو بعد أو أنه قد لا يأتي، فلا يعلم بالتالي عن ظروفه شيئًا.
كانت
الطاولات تحوي صنوفا متعددة من المشروبات الساخنة والباردة، بدت أباريق الشاي تفور
وتغلي على النار الهادئة لتحافظ على درجة سخونتها، دلال القهوة كانت دواخلها تنضح
بما فيها، مكائن العصائر الطازجة مختلفة الأشكال والألوان كانت تجعل الشخص محتارًا
فيما يبدأ بشربه.
شاهد
خالد على مقربة منه أثناء تحضيره لفنجان القهوة الأستاذ طارق مسؤول دائرة التدريب
في المصرف، والذي لم يلحظ رؤية خالد له في أثناء ذلك، رغب خالد بالذهاب لإلقاء
السلام والتحية عليه لما يكنه من احترام وتقدير له، ولأنه يرى فيه ذلك المدير الذي
صنع اسمه بتعبه وكده وجهده، على عكس بقية المدراء الذين عرفهم خالد خلال عمله في
المصرف، والذين لم يصلوا لما وصلوا إليه إلاّ بالقفز على أكتاف غيرهم أو بفضل
علاقاتهم النافذة، وليس بفضل ثقافتهم المعرفية، أو عقليتهم الفذة أو موهبتهم
الشخصية.
كان
خالد يتذكر تلك الكلمات الصادقة في معناها التي سمعها منها عن ظلم المدراء في بداية
التحاقه في المصرف والتي لمس واقعها المرير في محيط فرعه.
عندما
هم خالد بالسير نحو طارق توقف فجأة عندما لاحظ قدوم سليمان يرافقه بعضٌ من مدراء
الفروع والإدارات الأخرى، كانوا قادمين لتناول شيء يشربونه وصادف ذلك تواجد طارق
هناك فأخذوا يصافحونه ويبادلونه التحية ويتجاذبون مع أطراف الحديث.
كان
هناك عامودٌ رخامي وسط المكان يفصل بين خالد والبقية، وكانت الطاولة تمتد
لما
بعد تواجد ذلك العامود.
لم
يلحظ أيٌ من الآخرين تواجد خالد في الطرف الآخر، كان خالد يمسك بفنجان قهوته، وبدا
ساهمًا في التفكير، مرتقبًا رؤية وسماع شيء ما.
فرغ
طارق من السلام على سليمان ومن معه، أخذ بعدها يوجه كلامه لهم بنبرة الإنسان
الواثق من قدراته وإمكاناته:
منذ
أن تأسس هذا المصرف كنت أتوق شوقًا أن أجتمع بكم أيها المدراء الكرام، لكن لأسباب
متفرقة لا أعلمها حقيقةً لم نوفق بالاجتماع سويًا، فحمدًا لله أننا اجتمعنا في هذه
المناسبة، لنتبادل الآراء ونستمع لوجهات النظر، فهذا من شأنه تقدم المنشأة التي
نعمل جميعًا لصالحها.
لعل
أعتب عليكم أن كل مدير منكم حضر لوحده، حضور المدير مع طاقم وأفراد فريقه العملي
من شأنه أن يعطي صورةً للآخرين عن مدى تعاضد وتماسك أفراد الفرع الواحد أو الإدارة
الواحدة، عندما كنت أدرس في أمريكا كنت لا ألاحظ الفروقات ما بين المدراء
والموظفين، بين الرؤساء والمرؤوسين، لأنهم جميعًا يؤمنون
بروح
الفريق الواحد...
روح
الكيان الواحد...
روح
الجسد الواحد...
في
الغرب يرون أن أهم كنوز ومكتسبات أي منشأة هو ذلك العنصر البشري الذي متى ما تم الاستثمار
فيه سوف تحقق المنشأة النجاح المطلوب والهدف المرغوب.
هم
يرون أن الفوقية، النرجسية والاستعلائية وما يندرج تحت لواء تلك المعاني من قبل
المدراء، من شأنه أن يسبب الأحقاد والضغائن في نفوس الموظفين، وهذا يعتبر دلالة على
سلوك ظاهري يجب أن يبقى مرفوضًا في المحيط العملي، لأنه سيؤثر سلبًا على حركة
وآلية العمل، حيث سيصيب أداء الموظف الإحباط واليأس.
نظر
سليمان ومن معه لبعضهم البعض، كانت علامات الاستغراب ودلالات الاستهجان باديةً على
وجوههم، تقاسيم الغرور والكبرياء وملامح العُجب والاستعلاء رسمت بريشتها ألوان تلك
المعاني على وجههم المتقلبة ما بين الرمادية والضبابية.
هدوءٌ
ساد لسويعات محيط المكان ثم تعالت قهقهات سليمان الذي انفجر ضاحكًا
على
كلام طارق!!!
انضم
بقية المدراء لسليمان ليتشاركوا معه في الضحك العميق، فما زالوا كذلك للحظات حتى
توقفوا بصعوبة عن الضحك الساخر.
تمالك
طارق أعصابه وكتم غيظه الغاضب حيال التصرف المستفز من سليمان والبقية
والذي
لم يكن ينم على أدنى درجات الاحترام والتقدير الذي يجب أن يتمتع به كبار السن
فضلًا
عن مدراء يتبوءون مناصب رفيعة ينبغي أن تتواءم وتنسجم مع ثقافتهم التي عكست معاني
رجعية لعقلية متأخرة عن ركب التطور الإداري والمهني.
هدأت
نفس طارق وواصل حديثه لسليمان والبقية فعقب قائلًا:
حسنًا
يبدو أن كلامي السابق لم يرق لكم كثيرًا، في الوقت الراهن قد لا يكون من الضروري
تكرار ما سبق فلدي ما هو أهم وأنفع لكم.
هل
اطلعتم على برنامج التطوير الإداري الذي أرسلتهم لكم عبر البريد الإلكتروني؟
إنه
برنامجٌ صـممته خصيصًا لمدراء ومديرات فروع وكذلك باقي مدراء إدارات المصرف.
إنه
برنامج حديث من نوعه وقيّمٌ في محتواه، حيث راعيت فيه بساطة التصميم،سهولة الإطلاع
على مرفقاته وسلاسة التنقل بين محتوياته.
البرنامج
عبارة عن دروس تدريبية وأمثلة عملية ومعلومات نظرية ستساهم بشكل كبير في تسهيل
أداء المهام الوظيفية لجميع المدراء، ليضعوا خططهم العملية وأهدافهم السنوية.
إضافة
لذلك فإن البرنامج يشرح الكيفية التي ينبغي أن تكون عليها العلاقة بين المدراء
والموظفين
من المنظور العملي، لكي لا يكون هناك قصور أو ضمور في أحد الطرفين-المدير أو
الموظف- وأنهم جميعًا يعتبرون طرفين ضروريين في معادلة الفريق العملي.
أرجو
أنكم قد اطلعتم على البرنامج، وأرجوكم رجاءًا خاصًا إن كان لديكم أي استفسارات
أو
صعوبات تواجهكم أن لا تترددوا بالاتصال بي سواء هاتفيًا أو إلكترونيًا.
أنا
هنا لست بمسئول تدريب أو خلافه، بل أنا جنديٌ مجند لخدمة أفراد هذه المنشأة، فلا
مسميات وظيفية أو مناصب عملية تحول بيننا إن شاء الله تعالى.
نظر
سليمان ومن معه نظرة تهكم ودونية لطارق، عقب سليمان على كلام طارق بقوله:
من
تظن نفسك يا هذا؟
نحن
لا نفقه كثيرًا مما تقوله...
برامج...دروس...أمثلة...تدريب
ماذا
تقصد بكلامك يا هذا...
هل
تظننا أطفالًا صغارًا لكي تمارس علينا هرطقاتك التي تعلمتها في الغرب.
نحن
مدراء...نحن مدراء...نحن مدراء...
نحن
من يعلمك أصول الكلام وفنون الأفعال يا هذا...
التفت
سليمان لمن حوله وأخذ يسألهم ما رأيكم يا أصحابي فيما ذكره هذا المثقف؟
أجاب
أحدهم متهكمًا: يا لك من جاهل يا سليمان، أنت شخصٌ متقوقع!!
عقب
آخر بقوله: يا لك من رجعي يا سليمان، أنت شخص متخلف!!
أضاف
آخر بقوله: يا لك من صغير يا سليمان، سوف نعيدك لحضانة الأطفال!!
ما
لبث الجميع أن انفجروا ضاحكين حتى زل من يد أحدهم فنجانه فوقع أرضًا وانكسر.
عقب
سليمان عليه قائلًا: الويل لك، سوف أطلب من طارق أن يضربك بالعصا، واصل الجميع
ضحكهم وسط قهقهات سليمان التي لم تتوقف.
نظر
طارق بتأسف وحسرة للجميع ثم قال لهم:
يبدو
أننا بالفعل في-مصرف علاقات خاصة-لا يحكمه منهجية أو مركزية أو نظام، لن أستغرب لو
بقيتم بقية حياتكم في مناصبكم الإدارية لا تغادروها إلاّ عندما يحين رحيلكم عن هذه
الحياة لتذهبوا لقبوركم.
ما
دامت هذه هي العقليات...
هذه
الأفكار...
هذه
الرؤى...
هؤلاء
البشر...
هم
من يعملون ويتبوؤن مناصب رفيعة في هذا المصرف، فيمكنني القول الآن
"على
المصرف السلام" لقد أضعت وقتي معكم، أستأذنكم الآن للذهاب للاجتماع.
إلى
اللقاء.
وقف
خالد خلف عامود الرخام ساهمًا بفكره وتأمله لما سمعه من الكلام الذي دار بين طارق
والبقية...
جعل
يقول في نفسه: منذ أن التقيتك يا أستاذ طارق لأول وهلة عند انضمامي لهذا المصرف،
عرفت أن مكانك الطبيعي ليس هنا، بل عند المنشآت الاحترافية التي ترسخ لمعاني حقوق
الموظفين والعاملين وتقوم بإرسائها على شواطئ أنظمة مستقرة وليس وسط بحار محسوبية
وواسطة مضطربة و متلاطمة الأمواج.
لقد
عرفت الآن مغزى كلمتك حينما ذكرت لي "أخشى أنك اتخذت القرار الخاطئ حينما
انضممت لهذا المصرف يا خالد".
ربما
يا أستاذ طارق كنت تقصد أنه ما دام لدي فرصةٌ سانحة خلال العرض الذي قدم لي في
الماضي لأنضم لمصرف آخر لن أجد فيها درجة السوء التي بلغها هذا المصرف الإسلامي
الشكل، فكان من الأجدى لي أن أذهب له فأشرت لي أني سأندم لدخولي لهذا المصرف، لأنك
كنت تعرف حقيقة معاني المحسوبية والواسطة التي نهشت جسده نهشًا بشعًا.
حسنًا
يا أستاذي طارق فلا ضير في ذلك، لم يعد بإمكاني أن أستعيد فرص الماضي فالفرص
الذهبية لا تأتي في العمر إلاّ مرةً وقد لا تأتي أبدًا...
لابد
من خوض التجارب يا خالد على اختلاف أشكالها وتعدد ألوانها...
فلن
نعرف حلو الشيء ومره إلاّ من خلال مخالطتنا وخوضنا لغمار التجربة فيه...
النجاح
يا خالد في كثير من الأحايين لا يأتي إلاّ عبر اتخاذ قرارات ناجعة وسليمة، واتخاذ
القرارات السليمة لا يولد إلاّ من رحم الخبرة والتجربة اللذين لا يأتيان إلاّ من
اتخاذ القرارات الخاطئة وفي أحايين أخرى من القرارات غير المحسوبة.
انتهى
خالد من نجاويه اللحظية مع نفسه في ذلك الوقت ، ثم أخذ يرقب ذهاب سليمان ومن معه
لقاعة الاجتماع، مضى خالد بعد ذهابهم لينضم لبقية الحاضرين.
في
قاعة الاجتماع، كان الحاضرين قد ملؤوا جنبات المكان، تأخر خالد حينها فلم يجد
كرسيًا يجلس عليه، ظل واقفًا في آخر القاعة ترقب عيناه وجود كرسي شاغر هنا
أو
هناك. في تلك الأثناء تقدم لخشبة العرض رجلٌ متدين الشكل والهيئة، ذا لحية تخللها
شيءٌ من البياض، كانت ملامح البساطة والعفوية تتمزق من بين ثنايا وجهه.
أخذ
مكانه على منصة الإلقاء، ثم بدأ بالسلام على الحاضرين فأعقب ذلك تحيته
وترحيبه
بهم، وأخيرًا شرع بتلاوة كلمته فقال:
إخواني
الأعزاء...
أحبابي
الأفاضل...
زملائي
الكرام...
لا
أدري بأي عبارة من تلك سوف أختار لأدخل سياق هذه الكلمة المقتضبة فهذه أول مرة أقف
أمامكم وبين أيديكم، فلتـلتـمسوا لأخيكم الماثل أمامكم أي زلل أو خلل في كلمته
هذه، فهو ليس من جهابذة الكلم ولا من فطاحلة الخطابة، بل هو أخٌ محبٌ لكم ومنكم
يتعلم وإليكم يعود.
أيها
الجمع الكريم...
في
بادئ هذه الكلمة أعرفكم بنفسي المتواضعة، الدكتور محسن، مدير الرقابة الشرعية في
هذا المصرف، وأرجو أن أكون من أهل الإحسان لكم خلال ما سأتناوله خلال كلمتي
العابرة.
أنا
لست بشيخ مكين...أو رجل دين...أو واعظ أمين...
بل
شـخصٌ يبقى رهين لملاحظات الآخرين، وآراء من هم حوله، يحتاج لنصحهم له، يفتقر
لتوجيههم له، يشتاق لنقدهم له، يتقوى بكلماتهم، يضعف إذا لم يصوبوا رأيه.
أيها
السادة الأعزاء...
أقف
في هذه اللحظات وهذه السويعات لكي أسلط على بصائر قلوبكم قبل أعينكم ظلال قبس أرجو
أن تتسع نفوسكم لها بكل أريحية روح ورحابة نفس.
إن
المصرفية الإسلامية لم تخض تجربتها بشكل واقعي، لم تأخذ حقها المنطقي من التواجد
والتطبيق الفعلي لها عبر تاريخ المصرفية العالمية، ظلت تكافح وتنافح عن نفسها، عبر
مجهودات شخصية لأناس حملوا هم تطبيقها لتحل مكان المصرفية التقليدية التي بقيت هي
السائدة لنظام الصيرفة في كثير من دول العالم.
نحن
في هذا المصرف سعينا منذ نعومة أظافر تأسيسه وعبر دائرة الرقابة الشرعية
التي
انبثقت من جسد هذا المصرف لترسيخ معاني المصرفية الإسلامية، وتجذير مفاهيم صيغ
التمويل الشرعية للجميع موظفين وعملاء، لكي تكتمل منظومة المعرفة لجانب المصرفية
الإسلامية عبر المنتجات المقدمة التي يقدمها المصرف، إضافةً لنقل المعارف والعلوم
الخاصة بالتعاملات الشرعية للعملاء.
أيها
الإخوة الأفاضل...
من
بين صيغ وطرائق التمويل التي يقدمها المصرف ما يعرف بالمضاربة والإيجارة والمرابحة
وهي صيغ لقروض حسنة بديلة عن القروض التقليدية المبنية على الفوائد الربوية التي
تجر نفعًا للمصرف المانح لها.
أيها
الزملاء الكرام...
لعل
أهم ما أشير له في كلمتي هذه هو التنبيه أنكم على ثغر عظيم، حيث أنه ملقى على
عاتقكم مهمة نقل المفاهيم المصرفية السامية والبديلة عن مفاهيم الصيرفة التقليدية
المبنية على الفوائد الربوية التي حرمها رب العزة والجلالة في كتابه العظيم وعلى
لسان نبيه الكريم صلوات الله تعالى وسلامه عليه.
عندما
نلقي الضوء دون تعتيم يذكر على واقع كثير من مصارف العالم أجمع، قد نجد أن بعضها
سعى لإحلال المصرفية الإسلامية كبديل عن المصرفية الربوية المحرمة، وهنا يحتمل
الأمر تأويلين لا ثالث لهما.
التأويل
الأول أن هناك مصرفا طبقها لكي يمهد لتطبيق المعنى الحقيقي للنظام المالي المصرفي
الإسلامي ليكون ثقافةً سائدة ودائمة وبديلة عن ثقافة النظام المالي المصرفي
الربوي.
أما
التأويل الأخير أن هناك مصرفا طبقها لغرض تطبيقها شكليًا فقط دون الأخذ بجوهرها
السامي، فهو هنا قد تاجر واستغل شعار الشرعية ليوظفها في مجال التعاملات المصرفية
فقط دون أخذ الاعتبار في تطبيقها في مجال العدل والإنصاف في التعامل مع الآخرين
والتعاطي مع الموظفين والعاملين تحت منظومته، فهو هنا اختزل مفهوم المصرفية
الإسلامية في جانب المعاملات ونسف جانب آخر دعت له شريعة إسلامنا الأغر والشامل
والكامل في رسالته الربانية والإنسانية.
إذا
ما نظرنا لمصارف أخرى تتبنى نظام الصيرفة التقليدية ولاقينا صورًا من الظلم
والإجحاف تمارس في حق الموظفين، قد لا نستغرب ذلك طالما أن نظام المصرف
ككل
لا يطبق الشرعية في أساسه المصرفي، وهذا لا يبرر بالطبع أن تهضم حقوق
الموظفين
فيظلمون.
لكن
إذا ما نظرنا لمصارف تطبق نظام المصرفية الإسلامية ومبادئ الشريعة في تعاملاتها
المصرفية، وفي المقابل تمارس أشكالًا مختلفة من الظلم والتعسف الوظيفي، والتجاهل
والتهميش العملي في حق الموظفين الكادحين، فإن ذلك كله يمثل خدشًا في وجه
المصداقية وشرخًا في جسد الصدقية. فالمصرف الذي يضع العملاء ثقتهم بإسلامية
تعاملاته لكنه يمارس النقيض في حق موظفيه فهذا هو عين التناقض، فمن باب أولى أن
تكون تلك المصارف مطبقة لكل أهداف الشريعة السمحاء سواء في معاملاتها المالية أو
تعاملاتها البشرية، وإلا فهي هنا تعتبر تطبق المبادئ المصرفية الإسلامية حسب
رغباتها الربحية وأهدافها التجارية، وليس حسب معاني تلك المبادئ السامية التي لا
تحتاج لترجمان لتبيان مدى وضوحها.
أيها
الجمع الكريم...
لعل
آخر ما أختم به كلامي هو شكري لكم على إرخاء أسماعكم لي، وترحيبي الدائم لتلقي
ملاحظاتكم وآرائكم التي آنسُ بها وأسعد بقراءتها والاستفادة منها على الدوام.
كل
الدعوات وكل الأمنيات لكم بالتوفيق والسداد لما فيه رقيكم الوظيفي ونهضة
هذا
الكيان المصرفي الإسلامي.
صفقت
عيونُ، قلوبُ، جوارحُ وأرواح الحاضرين بالاحترام والتقدير والإجلال لكلمة الدكتور
محسن التي ألقاها على مسامعهم التي ظلت آذان قلوبها مرخيةً لها قبل آذان
سمعها.
كانت
عينا خالد تحدقُ من بعيد لوجه الدكتور محسن؟
بدأت
عجلة شريط ذاكرة أحداث فترة ما بعد تخرج خالد من الأكاديمية وقبل التحاقه بالمصرف
بالدوران، فأخذ عقله يسترجع بعجالة تواصله القديم والذي نفض الحاضر اللئيم رمال
وعوالق الذكرى عن أطراف ثوب الماضي.
تذكر
خالد محاولته المبدئية والأولى عندما راسل الدكتور محسن لغرض الانضمام للمصرف وذلك
قبل أن يلتقي بسليمان الذي سعى له في أمر التقديم حينذاك.
كان
خالد في ذلك الوقت قد راسل الدكتور محسن مبديًا رغبته الالتحاق بالمصرف، فأرسل
أوراق مؤهلاته العلمية وشهاداته الدراسية وطعمها ومهرها برسالة توضيحية
مختصرة،
ذكر فيها أنه يرغب بالالتحاق لركب العمل المصرفي عبر المصرف الذي يعمل به الدكتور
كمدير للرقابة الشرعية، معللًا رغبته وطلبه بأنه خريج علوم مصرفية فسيكون ذلك أدعى
لقبوله بالعمل من غيره الذي قد لا يحمل مؤهلًا خاصًا بمجال العلوم المصرفية، ولأن
المصرف إسلاميٌ بحت فسيسعى بالتالي لتبني دماء شابة حديثة التخرج في حقل المصرفية،
ليبني جيلًا شبابيًا مصرفيًا إسلاميًا ليعمل ضمن كادره.
كان
خالد في تلك الفترة يواجه صراعات التناقض النظري والعملي على أصعدة مختلفة، فبعد
تناقض المناهج والمواد الدراسية التي درسها في الأكاديمية حيث كان يدرس علوم
المصرفية الربوية الخالصة، فقد علم متأخرًا وقبيل تخرجه حقيقة وواقع حرمة العمل في
المصارف الربوية وجواز العمل في المصارف الإسلامية، وفي المقابل يكتشف قلة وندرة
المصارف الإسلامية الموجودة أمامه، فأصبح تقديم طلب العمل لديها ليس بالأمر الهين
أبدًا سيما أنه واجه متطلبات ضرورية كوجود الواسطة والمعرفة الشخصية لكي يتم
قبوله.
كانت
رسالة الدكتور محسن الجوابية على خالد في ذلك الحين:
أنه
قد استلم أوراق مؤهلاته وشهاداته ، ووعده بأنه سيحتفظ بها وسيقدمها لمن يستطيع
المساعدة وفي حال وجود شواغر وظيفية في المستقبل.
بعد
أن قرأ خالد تلك الرسالة أخذ يغوص في بحر تساؤلاته المتلاطمة الأمواج فجعل يحدث
نفسه قائلًا:
هل
تتحمل المصارف الإسلامية ذنوب وخطايا من رغبوا بالتقديم للعمل لديها ثم تحولوا بعد
ذلك لمصارف ربوية بعد أن رفضتهم تلك المصارف بحجة عدم توفر شواغر لهم؟؟
هل
يتحمل بعض رجال الدين الذين أفتوا في الماضي بحرمة العمل في المصارف الربوية ثم
أضحوا في يقظة الحاضر الراهن أعضاءً في هيئاتها الشرعية سيئات الموظفين العاملين
في تلك المصارف فرأوا بأن تواجد رجال الدين في الهيئات الشرعية مسوغٌ شرعي لهم لكي
يعملوا بها؟؟
خالد...خالد...خالد...ماذا
دهاك هيا تعال لقد وجدت كرسيا هنا، تعال قبل أن يأتي أحدٌ ما ليجلس عليه.
استفاق
خالد من تأمله الساهب، فانتبه إلى راجح الجالس في مؤخرة القاعة حيث كان يناديه،
ذهب خالد مسرعًا إليه.
راجح:
ما بالك تأخرت في المجيء، هل كان صوتي منخفضًا لهذا الحد فلم تسمعني حينما ناديتك؟
أجاب
خالد: لا يا صديقي لكني شردت في التفكير قليلًا.
راجح:
فيما شرد ذهنك؟
خالد:
لقد أطل علي الماضي بخيوطه فنفض غبار ذكرى قديمة في مخيلتي فأعمت عينيّ تلك
الأتربة المنبعثة من عنقه.
راجح:
لم أفهم ماذا تعني بالضبط، فلسفتك اللفظية وتراكيبك الكلامية يستعصي علي فهمها يا
خالد. أرى فيها كثيرًا من الغموض فأحتاج معها لجهد ذهني لأفك طلاسمها لأعرف
مغزاها.هي باختصار يكتنفها الغموض في أحايين كثيرة.
ضحك
خالد قليلًا ثم قال: يحتاج الإنسان في أوقات معينة أن يكون غامضًا أمام الآخرين يا
راجح لكي يعرف ما يدور حوله، أو ليوهمهم أنه ليس خارق الذكاء في عاداته أو صفاته
ليبدو عاديًا مثلهم. حسنًا كنت أرغب بسؤالك عن الدكتور محسن؟
راجح:
وماذا تريد أن تسأل بخصوصه؟
خالد:
هل تذكر صديقك الذي التقيناه ذات مرة في أحد لقاءات المصرف، أذكر أن اسمه كان
يزيد.
راجح:
نعم يزيد...يزيد...ماذا عنه ولماذا تسأل عنه؟
خالد:
هل الدكتور محسن يكون قريبًا له، فاسم عائلتهم واحد، فقلت في نفسي أنهم
ربما
يكونون أقرباء لبعضهم من بعيد أو ما شابه فلا يعلمون بذلك.
قهقه
راجح بالضحك الساخر ثم قال: كيف لا يعرفون أنهم أقارب وكل واحد هو شقيق الآخر في
الحقيقة!!!
نظر
خالد باستغراب: هل هذا صحيح؟ قل غير ذلك القول يا راجح.
راجح:
أقسم لك يا خالد، ولقد تعين في المصرف بعد أن توسط له الدكتور محسن، وسأزيدك من
الشعر بيتًا، هناك شقيق آخر للدكتور يعمل معنا في المصرف.
إذن
ثلاثة إخوة يعملون في مصرف واحد، فهل تتوقع أن هذا الأمر يا خالد جاء بمحض الصدفة،
أم أنها العلاقات والمعارف الشخصية!!.
خالد:
ربما هي كما ذكرت، بل الشيء الأكيد أنها علاقات ومعارف شخصية.
راجح:
لقد أصابني النعاس من كلمته التي ألقاها أمامنا، لم أعد أثق به أو برجال الدين
الذين مثله، لا أدري يا خالد أشعر أنهم يقولون ما لا يفعلون، يدعون لمبادئ ومُثل
وهم
لا يطبقونها على أنفسهم، فيدخلون في دوامة التناقضات لتضرب مصداقيتهم
أمام
الآخرين عبر خطابات رنانة في ألفاظها لكنها جوفاء في تطبيقها.
خالد:
أصابع يدك يا راجح ليست واحدة، وكذلك رجال الدين ليسوا سواسية، هذا
شأن
كثير من الأشياء، هذه هي الحياة كما أن فيها الطالحون ففيها أيضًا الصالحون.
راجح:
حسنًا لنؤجل حديثنا لاحقًا، سوف يلقي بعد قليل الأستاذ طارق كلمته أمام الحضور
وبعدها سيلقي-ياسين-مسؤول دائرة الفروع كلمته الختامية، رتبت نفسي
لأقصده
بعد نهاية كلمته لأذهب وأتحدث معه مباشرة بخصوص عودتي للفرع من جديد.
لقد
حضرت له مفاجأة ستجعله ممتنًا لعودتي رغم أنف عبد الله الذي يظن أن سلطته كمدير
تجعله يصدر قراره التعسفي بنقلي.
خالد:
ما هي المفاجأة، لقد أثرت فضولي يا راجح؟
راجح:
لا تستعجل ستراها بأم عينك حينما يأتي الوقت المناسب، سأشفي غليلي وغليلك أيضًا من
عبد الله، لكي أعطيه درسًا في احترام الآخرين وليعلم إن كان لديه نفوذه الشخصي
فأنا كذلك لدي علاقاتي الشخصية لكني لا ألجأ لها إلا في أوقات الضرورة لكي ألقنه
درسًا لا ينساه في التقوى على الآخرين.
تقدم
الأستاذ طارق ليقدم كلمته للحاضرين، ألقى التحية عليه ثم شرع بالحديث لهم قائلًا:
أيها
الزملاء الكرام...
إني
سعيدٌ جدًا بتواجدي بينكم في هذه المناسبة الطيبة، وسعيدٌ أكثر أني أرى هذه الوجوه
الشابة التي يعول عليها الكثير لخدمة هذا الكيان المصرفي.
أيها
الزملاء الكرام...
الشباب
هم وقود المجتمع في كل مكان وزمان، من خلالهم تعقد الآمال، وتنسج الأماني، وترسم
الأحلام، هم عماد المستقبل لأي منشأة، هم أهم عناصر الاستثمار، وأهم أدوات التفوق
لها، إن خارت قواهم وضعفت، خار في أعقابهم وضعف كل شيء، إن تحطم ظنهم وتشتت عشمهم
في مدرائهم فهم لاشك سيبقون محطمين.
أيها
الزملاء الكرام...
العمل
هو كالموطن الجميل الذي تهفو له النفس من ساعات الصباح الباكر وحتى نهاية النهار،
إن تعاملت معه روح الموظف بنشاط وحيوية وملئت نفسها بالأمل والتفاؤل، فهي لاشك
ستبدع وتنجز وتتقدم من خلاله، الموظف ينبغي له أن يحب عمله فهو بيته الثاني الذي
يقضي فيه كثيرًا من وقته، إن لم يحبه برغبته فكل شيء في محيط العمل سيتعطل وسيتوقف
وسيشل.
أيها
الزملاء الكرام...
العمل
كالغابة الكبيرة والدغل المهول، يسكنهما حيوانات ضعيفة وأخرى قوية، حيوانات لطيفة
وأخرى شرسة، ولاشك أن الكثير يظن أن الغلبة للأقوى، وقد لا يعتبر ذلك صحيحًا على
الدوام، فمن امتلك عقله وحرك فكره فلا شك أنه سينتصر وإن لم يكن قوي البنية مادام
أنه قوي العقل والتفكير.
أيها
الزملاء الكرام...
ستواجهون
في الحياة العملية أنماط من الشخصيات الإدارية...
ستخالطون
في بيئة العمل أولئك المدراء المتسلطين جدًا...
ستعايشون
في فلك العمل أولئك المدراء المنافقين جدًا...
سترون
في محيط العمل أولئك المدراء المتغطرسين جدًا...
المدراء
الفاشلون هم من يدعون النجاح ويبحثون عن القطيع الكبير...
المدراء
المتناقضون هم من يدعون المثالية ويعشقون التمجيد والتعظيم...
المدراء
الكاذبون هم من يدعون الصدقية ويبحثون عن الزلة والتقصير...
أيها
الزملاء الكرام...
صراعات
وتحديات العمل، هي امتداد لصراعات وتحديات الحياة الدراسية والأسرية، الذي كيف
نفسه على صراع وتحدي المجال الدراسي والأسري فلن يعيقه ذلك على تحمل مجاله العملي.
من
الناحية التحليلية لشخصية أي مدير متسلط، فإن المدير حينما يحرص على أن يعمل تحت
إدارته عددٌ كبير من الموظفين، فإن حرصه ذلك هو ترجمة منطقية لرغبة النفس الجشعة
بالبحث عن الامتلاك بكافة صوره البشعة.
أيها
الزملاء الكرام...
عندما
ترون مكاتب المدراء وقد تحولت لما يشبه المزارات لعدد من الموظفين الهاربين من
أداء أعمالهم، تسمعون فيها ضحكات الكذب، وتستنشقون فيها أنفاس النفاق، فهنا
ستتراكم الأحقاد والضغائن في نفوس البقية المسحوقة من الموظفين المهمشين.
في
المجال العملي والوظيفي سنجد كثير من الموظفين لديهم من الموهبة والفكر والثقافة
ما يساهم في رُقي وتقدم المنشأة،لكنهم يبقون مُقيّدين بقيود مدير متغطرس لا يجيد
سوى اللغة الآمرة المتكأة على جهود الموظفين الخائفين على لقمة عيشهم، فيتحاشون
خوض الصدام معه، فتموت بالتالي موهبتهم،فكرهم وثقافتهم.
أيها
الزملاء الكرام...
قصص
الإمبراطوريات العظيمة والتي كنا نسمعها ونحن صغار فترويها لنا أمهاتنا وآبائنا،
هي في حقيقة الواقع ليست تمثل قصة الناس..آمالهم..تطلعاتهم..طموحاتهم، وليست تمثل
بالتالي بطولات الأبطال وملاحم الأفذاذ، بل هي تمثل قصة أشخاص وأفراد يريدون أن
يكونوا كبارا..عظماء..أفذاذا..لكن على حساب الآخرين وليس من أجل الآخرين، وكذلك هم
المدراء الفاشلون يصادرون جهود الموظفين الناجحين. لينسب النجاح لهم فقط.
أيها
الزملاء الكرام...
ارسموا
في مخيلتكم ثلاث دوائر،ضعوا في الأولى أحلامكم الصغيرة، وفي الثانية أحلامكم
المتوسطة، وفي الأخيرة أحلامكم الكبيرة، صلوا بينهم بخطوط متقطعة وأخرى متصلة،
سموا الخطوط المتقطعة((بالمحاولات المتلاحقة)) وسموا الخطوط المتصلة((بالدعوات
الدائمة)) لرب السماء لكي تتحقق لكم.
السلسلة
لا تستمد قوتها إلا من حلقاتها المتداخلة مع بعضها البعض لتشكل التحامًا قويًا،
كذلك حياة الإنسان فأحزانه وانكساراته هي التي تصهره ليشكل هو اللُحمة القوية
لشخصيته وذاته بعزيمة لا تعرف اليأس والتراخي، بل الأمل والتفاؤل.
أيها
الزملاء الكرام...
أعتذر
للإطالة وللاستطراد بالحديث...
تمنياتي أن أراكم في المستقبل القريب
مدراء
نافعين لغيركم...
مدراء
داعمين لمن حولكم...
والأهم
من ذلك مدراء صادقين غير منافقين مستـمعين لصوت العقل و الضمير...
مدراء
عادلين أقوياء مؤمنين بأن العدالة تصنع القوة وليس العكس...
دعواتي
الخالصة أن يكتب الله تعالى لكم التوفيق والنجاح في حياتكم العملية.
فرغ
الأستاذ طارق من إلقاء كلمته العظيمة بمعانيها، هم بمصافحة الموظفين الذين صفقوا
لكلمته التي وجدوا فيها كثيرًا من تعابير الأحوال، وعكسًا لما في أعماقهم من
أهوال، فكل موظف كان يواجه في حياته العملية سحقًا من تعاملات مديره وسرقة لجهوده
وتجاهل لتضحياته، فرأى الجميع في كلمة الأستاذ طارق خير معالج لما في أرواحهم من
جراح لم تجد من يوقف نزيفها.
كان
خالد جالسًا فلم يقم لمصافحة الأستاذ طارق، رغم أن نفسه كانت تحدثه كثيرًا
بتلك
الرغبة التي كانت ترافقه منذ أن التقى به في أول مرة، كان مترددًا بين قيامه
وجلوسه،
لقد كان يجلس على مقربة منه سليمان ومن معه من المدراء الآخرين، فلم
يكن
يرغب أن يقوم ويترتب على ذلك رؤيته لسليمان ومن معه.
في
تلك الأثناء التفت خالد لمقعد راجح فلم يجده بجواره، أخذ يلقي نظرةً هنا وهناك
ليبحث عنه، فوجده واقفًا في أحد زوايا القاعة يتحدث بوتيرة شفاه متسارعة مع ياسين،
كان يقف بجوارهم عبد الله بشكل شبه منزوي عن الأنظار.
كانت
ملامح راجح مرتاحة وهي تتحدث بثقة مع ياسين الذي اعتذر عن كلمته التي كان مقررًا
أن يلقيها على الحضور، بدت تقاسيم وجه عبد الله تكسوها تضاريس القلق وتجاعيد
التوتر، كانت فرائصه ترتعد خوفًا من شيء يوشك أن يقع عليه، كما لو كانت عاصفة أو صاعقة
ستلحق به.
أخذ
خالد يحدق جيدًا في هيئة عبد الله المعبرة، كان يطقطق أصابعه ليطرد التشنج الذي
أصابه، يعضعض أسنانه على شفتيه المتورمة من غبار مفاجئ هب عليها، كانت عيناه
متقلبتين غارقتين في بحر ضياع تغشاه أمواج تيه قد أحاطت به.
هنا
عرف خالد أن راجح قد نفذ ما وعد به فوجه صفعته لعبد الله لكن خالد لم يعرف عن
ماهية ذلك الوعد وتلك الصفعة شيئًا يذكر بانتظار أن يطلعه على الأمر لاحقًا.
بدأت
قاعة الاجتماع تخلو شيئًا فشيئًا من الحضور الذين هموا بالمغادرة والرحيل، في ذلك
الوقت كان خالد ينتظر انتهاء الأستاذ طارق من الجموع التي كانت تحيط به، لكنه
اكتشف فجأة وهو غافل ومشغول في مشاهدة راجح
أن الأستاذ طارق ذهب دون أن ينتبه لذلك.
في
ذلك الوقت هم خالد بمغادرة المكان، أخرج هاتفه ليتصل على رائد ويلتقي به، فجأة أحس
خالد بشخص يربت بيده على ظهره!!!
التفت
خلفه فكانت المفاجأة أن رأى سليمان يطل بوجهه عليه!!!
شهق
شهقةً حبست أنفاسه!!!
لم
يكن يتوقع تلك الصدفة أن تأتي بهذا الرتم المفاجئ.
أخذ
سليمان يصافح خالد بحرارة شوق كاذب واشتياق مصطنع ثم أردف يقول له:
يا
إلهي...يا لهذا الصدفة الجميلة جدًا أن ألتقي بك يا عزيزي خالد.
يا
لك من إنسانٌ مجحف...يا لك إنسانٌ قاس...
هل
هنأ لك نومٌ فيما مضى من الوقت فلا تسأل عني...
ولا
تنشد عن أخباري...
هل
نسيت إحساني لك عندما كنت عاطلًا عن العمل...
هل
هذا جزائي بعد صنائع المعروف التي بذلتها لأجلك...
لكن
صدقني رغم جفائك فلقد كنت دائم السؤال ومتفقدًا للحال عنك عند عمك فيصل وسلطان،
ففي كل مرة ألتقي بهما أوصيهما وصية خاصة أن ينقلوا سلامي لك.
أنت
عزيزٌ يا خالد وغال علي جدًا، ومكانتك عندي تفوق توقعاتك.
ظل
خالد يستمع لنشاز كلمات سليمان الذي ما يزال مستطردًا في سردها، ومع كل كلمة يتفوه
بها كان خالد يقول في نفسه:
يا
لهذا الإنسان العجيب...يا لهذا الإنسان الغريب...
هل
يظنني ساذجًا لأصدق كذباته التي لا يتردد في سياقتها لي...فها هو يقف أمامي الآن
يمارس تورعه الشارد وزهده البارد، هو لا يتردد عن التبجح في أنه متفضل علي ومحسنٌ
لي...
ماذا
لو فجرت المفاجأة في وجهه الآن...وصارحته بكلماته التي سمعته بأذني تصدر منه صبيحة
هذا اليوم فلم يكن يفصل بيننا سوى عامودٌ رخامي...الذي لو بثت فيه الروح
والحياة
وسمع كلماته السابقة والحالية لفضل العودة لحالة جموده وصمته رفضًا واعتراضًا عن
سماع كذبه ونفاقه.
انتهى
سليمان من سرد ما في نفسه المليئة بالاختلافات والتناقضات، بادر خالد بالسؤال عن
أخبار عمله في الفرع فسأله قائلًا:
بشرني
يا خالد إلى أي مرتبة وظيفية وصلت الآن؟
فأنا
أذكر أنك موظف خدمة عملاء، يبدو أنك الآن أحد الرجالات والأرقام المهمة الذين
يعتمد عليهم عبد الله على الدوام.
أجاب
خالد بغصات قهر كـتـمتها أنفاسه فلم يبدها لسليمان فقال:
ما
زلت موظفًا لخدمة عملاء.
تظاهر
سليمان باستغراب مصطنع واحتجاج كاذب فعقب قائلًا:
لا..لا
هذا ليس عدلًا....
لماذا
ما تزال باقيًا على نفس منصبك فأنت موظف كفؤ وتستحق الترقية..؟؟؟
أجاب
خالد في نفسه:
لأني
لست منافقًا ومتزلفًا مثلك ومثل الآخرين يا سليمان...
لأني
لا أجيد فنون اللسان الكاذب الذي ينسج عبارات التمجيد وكلمات الإطراء للمدراء
ليرضون عن الموظفين الذي يبصقونهم بالمدائح والثناءات ليمنحونهم حظوات وترقيات لن
ينالوها فيما لو بقوا ممارسين لمبادئ الإخلاص والوفاء والأمانة.
ربت
سليمان مجددًا على كتف خالد فقال:
ما
بك أين شردت يا عزيزي.
خالد:
لا فقط كنت أفكر بخصوص سؤالك.
لا
أدري حقيقةً لماذا لم أترقى ولم يزد راتبي، الأمر في النهاية توفيقٌ من الله تعالى
لعباده، الأرزاق جميعها مكتوبة بآجالها ومقاديرها، وأحمد الله تعالى على هذا، لقد
كسبت أشياء أهم بكثير من عدم ترقيتي وزيادة أجري.
نظر
سليمان وملامح الطمع باديةٌ على وجهه فقال:
وما
هي تلك الأشياء، يبدو أنك تنال هدايا و ومكافآت شخصية من العملاء على هامش تعاملك
معهم.
ضحك
خالد في نفسه ساخرًا ثم قال:
بل
كسبت ما هو أهم من الهدايا.
لقد
كسبت معرفة أرواح العملاء الطيبة...قلوب العملاء الطاهرة...
لقد
كسبت احترامهم الصادق...وتقديرهم الجزيل...
لقد
كسبت دعواتهم التي تفيض بالحب والنقاء والصفاء...
لقد
كسبت مشاعرهم النبيلة وأحاسيسهم الجملية...
لقد
كسبت قبول الإنسان في جميع صوره وأحواله وأشكاله...
وحسبي
من ذلك المكسب أنه أثمن مكسب...
أطرق
سليمان رأسه متعجبًا، قلب عيناه محتارًا ثم قال:
امـممم
تلك المكاسب لا تغني ولا تسمن من جوع، فلن ينفعك شيءٌ سوى المال يا عزيزي.
خالد:
كل إنسان لديه أولويات في هذه الحياة، هناك من تكون النزعة المادية والدناءة الأنانية
عينيه القائدتين له في تعامله مع الأمور والشؤون بعيدًا عن لذة الإحساس بالعمق
الإنساني والصميم الوجداني لما يحيط حوله من مشاعر الأشياء وأحاسيس المواقف.
ارتسمت
علامات الحيرة مجددًا على وجه سليمان ثم أضاف قائلًا:
لم
أفهم كثيرًا من قولك، لقد ذكرتني بكلام طارق الذي يظن نفسه مثقفًا، فساق لي ولرفقائي
مثاليات لا أقتنع بها أبدًا. حسنًا على كل حال أنا مضطر للمغادرة الآن، فلنبق على
اتصال وأعدك أن أتحدث مع عبد الله لكي يعدل راتبك ودرجتك الوظيفية، ولا أخفيك أني
أنوي استقطابك لدي في الفرع لتكون مشرفًا عليه، حيث أنه يوجد لدي شاغر لهذا
المنصب.
حسنًا
إلى اللقاء يا عزيزي.
غادر
سليمان القاعة، وفي الوقت ذاته كان راجح قد فرغ لتوه من الحديث مع ياسين الذي
اعتذر عن تقديم كلمته فجأةً.
ذهب
خالد نحو راجح ليطلع على ما حدث معه، كان هناك ثلاثةُ أشخاص يقفون
لجانبه.
أخذ راجح يتحدث لخالد وكانت علامات الرضى مرتسمةً على وجهه فقال:
أعرفك
بزملائنا في المصرف، مشاري وتميم ومشعل.
مشاري
وتميم زملائي الجدد في قسم خدمة كبار العملاء، وأما مشعل فسيكون
في
قسم الصرافة.
غمز
راجح خالد مازحًا ليواصل حديثه:
كان
من المفترض أن يقدمهم ويعرفك عليهم عبد الله، لكنه ذهب وراء ياسين، يبدو أنه يا خالد
قد أصابه تعبٌ جراء حديث ياسين الحامي والعنيف معه.
أخذ
راجح يقهقه ضاحكًا ليكمل قائلًا:
ما
رأيك بي يا خالد ألست أنفع أن أكون مديرًا، خصوصًا بعد أن قلبت الطاولة على عبد الله
ورجعت للفرع من جديد رغم أنفه، لقد أطلعت ياسين عن أمر نقلي التعسفي الذي أصدره
عبد الله دون وجه حق، وأخبرته أني أرغب في خدمة المصرف ونيتي أن أستقطب عملاء
مربحين له لكن عبد الله حطمني بقرار النقل، فما كان من ياسين إلا أن استجاب لي
لأنه لا يريد الخسارة للمصرف، لقد وبخه بشدة وقسوة وعنف.
ابتسم
خالد ابتسامة هادئة من حديث راجح وابتسامة أخرى خجلة تقديرًا لتواجد تميم ومشاري
ومشعل.
صافح
خالد الجميع ورحب بقدومهم قائلًا:
سررت
بلقائكم أيها الزملاء، وأتمنى لكم التوفيق في مشواركم وإن شاء الله سنكون يدًا
واحدة في الفرع.
أجاب
الجميع بالامتنان والتقدير لخالد، وبادلوه تهنئته بسعادتهم بأن يعملوا في فريق واحد.
استأذن
خالد من راجح والبقية لينصرف من القاعة.
مضى
خالد في طريقه، أخرج هاتفه وعاود الاتصال برائد: ألو...ألو أين أنت يا رائد..؟؟
لقد
اتصلت عليك مرارًا لكنك لم تجب؟
رائد:
مرحبًا بالصديق العزيز، أعتذر منك فلقد أخفضت رنين الهاتف قليلًا بسبب الاجتماع
ولم أنتبه لاتصالاتك.
أخبرني
كيف كان اجتماعك مع سليمان؟؟
تبرمت
ملامح وجه خالد بالاستغراب ثم قال متعجبًا: كيف عرفت أني اجتمعت بسليمان!!!
رائد:
لا..لا..لا...لا تقل ذلك، فأنا لا يفوتني شيءٌ من أخبار المصرف، فمن باب أولى أن
لا يفوتني شيءٌ من أخبار موظفي المصرف.
قهقه
رائد بالضحك ثم أكمل حديثه: ألم أقل لك ينبغي أن تكون يقظًا لم يدور حولك، حسنًا
فلتخبرني الآن ماذا قال لك ذلك الكاذب الأشر.
خالد:
دعنا من هذا الآن، أين أنت الآن؟
رائد:
في الفندق.
خالد:
أعلم ذلك، لكن أين مكانك الآن، أنت أشبه بمن يراقبني يا رائد لكني لا أشعره به وهو
حولي.
رائد:
ما رأيك لو أخبرتك أني أراك أمامي الآن!!!
خالد:
يا إلهي وكيف ذلك، إلاّ إن كنت ساحرًا وترى الأشياء عبر كرة سحرية.
رائد:
إني أراك عبر حبات الثريا الكريستالية، فقط قم بالدوران حول نفسك لتبحث عني وتتبع
مصدر صوتي.
خالد:
هاأنذا أستدير لكني لم أجدك، فلنتوقف عن اللعب كالأطفال.
رائد:
هذا ليس لعبًا، لقد أخبرتك فقط حاول لتجدني.
خالد:
لقد تعبت، هيا فلتخرج ولتفصح عن مكانك يا رائد.
نزل
رائد من سلم الدور العلوي للفندق والتقى بخالد لأول مرةً وجه لوجه بعد أن كانت
معرفتهم مقتصرةً عبر مكالمات واتصالات العمل.
صافح
خالد صديقه رائد، ثم أخذ يتحدث له بعد ذلك قائلً بأسلوب ضاحك:
يبدو
لي الآن من خلال ملامح وجهك أنك ما زلت تعيش مراهقة أطفال، لقد أتعبتني في طريقة
تعقبي لصوتك.
رائد:
هههه هذا تمرينٌ يساعد الشخص في أن ينظر من حوله ليزيد من درجة الوعي واليقظة في
عقله وحدسه، هو أشبه بمن ينمي حاسة خفية لديه.
أنا
أخبرتك أني أراك عبر حبات الثريا الكريستالية، فصورة وجهك انعكست بشكل متعدد عبر
تلك الحبات، لو أمعنت النظر جيدًا بشكل متأمل لعرفت مكاني، فضلًا عن أن صوتي سوف
يساعدك بسرعة لتتعقب مكان وجودي القريب منك.
إنه
تمرينٌ فلسفي عقلي بالمقام الأول يساعد على تحريك حواس الذهن.
خالد:
وما فائدته في هذه الحالة، أنت تضيع وقتك.
رائد:
لا تقل مثل ذلك عن شيئًا أنت لم تراقب تواجده أصلًا ولم تحاول البحث عنه، وحتمًا
لن تجده لأنك تجهله.
خالد:
لم أفهم شيئًا من حديثك، فضلًا وضح لي يا رائد أو اضرب لي مثالًا.
رائد،
حسنًا، انظر لهذه الصورة جيدًا، سأعرض لك مقطع هذا الفيديو في كاميرتي، تظهر فيه
عدة أشياء...شمس،أرض،حجارة،أنهار وطيور في السماء.
سأطلب
منك أن تقوم بعد الطيور، هل أنت مستعد!!
خالد:
حسنًا لنبدأ.
بدأ
خالد بمشاهدة المقطع حتى نهايته، أجاب رائد:
إنه
شيءٌ سهل جدًا، عدد الطيور عشرة.
رائد:
حسنًا لا تستعجل، كلامك صحيح هي عشرة، لكني لدي سؤال آخر، هل كان تركيزك على
الطيور أم حاولت أن تلقي نظرةً سريعة على بقية الأشياء الظاهرة في المقطع؟
خالد:
لقد كان تركيزي منصبًا على الطيور.
رائد:
هل لاحظت وجود رجل يمر من بين النهر أم لا.
خالد:
لا لم ألاحظ ذلك أبدًا.
رائد:
حسنًا، أعد رؤية المقطع ثانية لتتأكد من صحة كلامي.
خالد:
صحيحٌ ما ذكرت، يا إلهي إن تركيزي بالفعل ليس قويًا بما فيه الكفاية.
رائد:
الشيء الذي لا تبحث عنه، من السهل جدًا أن تفقده يا خالد، هناك أشياء في محيط العمل
مثلًا لا يركز عليها الشخص بشكل كبير وبالتالي سهلٌ جدًا أن تذهب لغيره.
هناك
أشياء تساعدنا الفلسفة في تحليل ظواهرها، كتحليل الحركات والسكنات.
خالد:
فهمت مغزى كلامك الآن.
رائد:
حسنًا أخبرني الآن، ماذا دار بينك وبين سليمان.
خالد:
في الحقيقة، أنت تعلم مكانتك لدي حيث أني لن أخفي عنك شيئًا ولا أخفيك سرًا، لم
أتعمد لقاء سليمان لأني لم أعد أنتظر منه أن يقدم شيئًا لي، فتحاشيت أمر مقابلته
لكنه باغتني صدفة.
لقد
ذكر لي أنه ينوي استقطابي لفرعه لكي أكون مشرفًا فيه حيث أنه يوجد شاغر لمنصب
المشرف.
ضحك
رائد بعمق حتى احمرت عيناه من شدة الضحك.
خالد:
ما بالك تضحك.
رائد:
لست أضحك عليك بل على ذلك الكاذب الأشر.
خالد:
ماذا تعني؟
رائد:
كيف يوجد شاغرٌ لديه وأنا مشرف الفرع، لكن طبعًا مع وقف التنفيذ.
خالد:
كيف يكون ذلك وأنت لم يسبق لك أن أخبرتني بأنك مشرف الفرع، لقد ظننته شخصًا آخر.
رائد:
أعتذر لك يا خالد، لقد أخفيت عليك ذلك ،أنت تعلم مدى التقارب والتوافق النفسي الذي
حدث بيننا منذ معرفتي بك،لم أكن لأخفي أي شيء يخصني لكني لم أر مناسبة لأذكر لك
الأمر.
أنا
مشرفٌ بالاسم والظاهر فقط، لكني لا أتمتع بالمزايا المالية لمنصب المشرف، فمزايا راتبي
هي مثل مزايا راتبك كموظف خدمة عملاء.
سليمان
وعدني بإنهاء أمر التثبيت الوظيفي لي وأن أكون رسميًا مشرف الفرع وليس مكلفًا،
لكنه طلب مني التكليف بعد أن رقى المشرف السابق لديه لوظيفة أرفع فأصبح مدير خدمة
كبار العملاء لدينا، فظل سليمان يشعرني أن التكليف هو أمرٌ مؤقت وسيعمل على تثبيتي
لكنه كذب علي وها هو يكذب عليك الآن مجددًا.
سليمان
باختصار هو شخصٌ لا ينفعك إلا إذا حصل على منافع وفوائد من ورائك، لقد قلتها لك
ذات مرة وها أنا أعيدها عليك مجددًا، لا تنتظر من سليمان أي شيء.
هو
لا يجيد سوى تقديم الوعود الكاذبة.
ارتسمت
ملامحُ انكسار خفية على وجه رائد فأحس خالد حينها بشعور المرارة المنزوية خلف وجهه
وإحساس الألم الغارق في نفسه رغم تظاهره بعكس ذلك، ربت خالد بيده على كتف صديقه رائد فقال:
حسنًا
لا تقل أي شيء، فلتلقي بسليمان في طي النسيان، انس أمره الآن ودعنا نذهب للغداء،
فقد حان وقت الظهيرة، وأرجو أن تقبل دعوتي للغداء.
تفتحت
أسارير نفس رائد بعد حديثه الذي شابه الألم وهو يستجلب واقعه المرير مع سليمان
فأجاب قائلًا: حسنًا لنذهب.
خالد:
أرأيت كم هو جميلٌ أن يبتسم الإنسان رغم ما يعتريه من هموم وأحزان، فالحياة تمضي
يا صديقي رغم كل الصعاب والمشاق.