شمس
صباح جديدة أطلت على البيت، رن منبه الساعة، كانت جفون خالد متقلبة ما بين إغفاءة
نوم شاردة عنه فظل يبحث عنها وسط الظلام ليستريح، وبين يقظة واقع بقي واردًا عليه
ليحاول عبثًا الهروب منه. أوقف خالد رنين المنبه لكن أصداءه بقيت مدوية في مسامعه
بعد ليلةٍ هي كسائر الليالي المليئة بالتشنج العصبي والزاخرة بالقلق النفسي والتي
بقي معايشًا لها على الدوام هو وإخوته في ظل مكابدتهم اليومية و المـستـمرة مع
أخيهم ياسر.
أحس
خالد برغبة جامحة بعدم الذهاب للأكاديمية في ذلك اليوم فخرج من غرفته وذهب صوب المطبخ
لإعداد فنجان قهوة. سار خالد متجهًا صوب حديقة البيت ليقضي بعض الوقت فيها راميًا
خلفه كل أفكاره التي بقيت متشبثةً به ليجر أذيالها رغمًا عنه دون تحكم ودون إرادة
تكبح جماحها.
جلس
خالد على كرسي بجانب حديقة البيت، وضع فنجان القهوة على الطاولة. كانت أشعة الشمس
قد ألقت بخيوطها الذهبية المتناثرة دفئًا على كل شيء. بدأت أفواه رشاش المياه
بالخروج لتعانق قطراته العذبة أوراق النباتات التي علاها شيءٌ من ذرات الغبار
والأتربة. أخذ خالد يتأمل منظر قطرات المياه وهي آخذةٌ بالتناثر لكنها لم تكن
ممتدة لباقي نباتات وحشائش الحديقة.
تسائل
خالد في نفسه قائلًا: يا إلهي كم هو معبرٌ هذا المشهد فقط لمن تعمق في صميمه، جهاز
الري رغم أنه يبدأ عملية السقي ثم بعدها يُنهي تشغيله بنفسه دون تدخل إنسان أثناء
عمله والذي يكتفي فقط بضبط توقيت عملية التشغيل والإطفاء، لكن مع ذلك يبقى محتاجًا
لمن يحمله لتغطي قطراته وتسقي بقية النباتات التي لا يستطيع الوصول لها.
إذن
أجهزة الري تختلف في أنواعها، فمنها ما هو سطحي يسقي سطوح الأوراق ومنها ما هو
جانبي يروي الأغصان، كذلك الكلمات الصادقة منها ما يؤثرُ تأثيرًا فوري ومنها ما
يمتد أثره في المستقبل.
ينبغي
علي أن أحمل جهاز الري من الحفرة الصغيرة التي هو فيها لتمتد وتنتشر قطراته لباقي
أجزاء النباتات والحشائش.
قام
خالد من على كرسيه تاركًا فنجان قهوته على الطاولة، أخرج جهاز الري من الحفرة وأخذ
يمسك به فتوزعت قطرات الماء يمنة ويسرة وعلى كل أجزاء الحديقة ليرتوي جميع ما فيها
بالماء.
عاد
خالد لكرسيه وفنجان قهوته ثم أسهب بنظره للحديقة، أصبح العشبُ مخضرًا وقد تشربت
جذوره الماء فبدا منظره ساطعًا وبراقًا.
الأزهارُ
والورود أيضًا كانت تلمعُ بهاءً وجمالًا وصفاءً.
النباتات
كانت تتمايل طربًا وفرحًا ليس فقط بعد أن دبت الحياة في عروقها على أثر الماء الذي
سرى فيها، بل كان تغريد العصفور النبيل يبعث النشاط والحيوية في روحها فتفتحت
أساريرها بهجةً وسرورًا.
كلُ
شيء كان جميلًا في تلك الحديقة الغناء، فجأة التفت خالد للطرف الآخر من الحديقة فينظر
لشجرة الليمون وتفاجأ من شكلها الشاحب فقام من مكانه على الفور ومشى صوبها يجر وراءه
خطوات ذكرياته القديمة معها.
ما
بالك يا شجرة الليمون قد بدت مظاهرُ الموت مرتسمةً على أغصانك المتجعدة؟
هل
كانت تجاعيد الحزن الدفين قد سرت لجذورك؟
أم
أنها أتربة نفثت غبار الجفاف في روحك؟
هاأنذا
أرى أوراقك متناثرة ومتبعثرةً حولي، لكن رغم ذلك كله تبدين قوية.. صامدة..شامخة في
وقوفك أمامي كشموخ وعزة سنبلة لا يؤثر فيها هبوب الهواء المتواصل على جسدها النحيل
حتى وإن تطايرت حباتها فهي تبقى واقفة.
مازلت
أتذكر يا شجرة الليمون كيف كان وجهك منذ أن سكنا في هذا البيت قبل سنوات طويلة.
لقد كان مشرقًا وبهيًا فكانت نكهة ثمارك اليانعة اللذيذة دلالة واضحة على طعم روحك
الطيبة والصافية.
إني
أرى الآن شيخوخة الزمان قد أصابت أغصانك وجذوعك وأوراقك فلن يولد بعدها ثمارٌ
جميلة. ربما هو كذلك وربما أنك ما تزالين حزينة ومتأثرة على اقتلاع شجرة الزيتون
فهي كانت رفيقتك الدائمة في هذه الحديقة.
يا
شجرة الليمون لقد كانت صديقتك رمزًا لأمي فهي كانت تحب النظر لها في كل صباح
ومساء..بل في كل لحظ وحين. لقد كانت ثمارُ صديقتك عندما تقطف تمر بمراحل السحق
والطحن والعصر لكنها في النهاية تُخرج أجمل مكنونات روحها، زيت يلمعُ مزيجه ليعالج
جراحات الآخرين.
سامحك
الله يا ياسر حينما اقتلعت تلك الشجرة فأنت وقتها لم تقتلع شيئًا واحدًا فقط، بل اقتلعت
معها جذور ذكريات أمي مع تلك الشجرة فهي ظلت تطلب منك أن تبقيها كما هي لكن عصيت
أمرها ومارست عصيانك لها يا من كنت تدعي كذبًا برها.
لقد
اقتلعت معها جميل مناظر وروعة مشاعر كان تجمعها مع بقية نباتات وأشجار الحديقة فقد
يكون اقتلاعك أيتها الشجرة سببًا لحزن شجرة الليمون التي أصبح الذبول يلتف جسدها
والشلل يسري في عروقها.
عاد
خالد لكرسيه والحزن يطعن قلبه، جلس ثم أخذ يمسك بفنجان قهوته الذي أصبح باردًا
كبرودة الأسى التي اغتالت مشاعره على ما لمسه من حال مؤلمة أصابت شجرة الليمون
التي كان يعتبرها رمزًا معنويًا دائم بالنسبة له في الصمود والكفاح.
أخذ
خالد يخاطب القهوة في نفسه قائلًا: يا لغرابتك أيتها القهوة!! فسطحك الأسود يعلوه
شيءٌ من بياض السكر والباقي منه ذائبٌ في مزيجك المظلم.
إنك
تشبهين اليأس فرغم سوداويته تبقى آثارُ أمل وبقايا تفاؤل عالقة ومتشبثة في أواخره.
إني
لأشعرُ ببدايات الطعم المُر حينما أحتسي مزيجك الداكن اللون لكني ما ألبث في نهاية
المطاف أن أحس بأثر السُكر الذي يسكن نهاياته. هكذا هي ملامح الأشياء في الحياة
تبدو مُرةً حينما نتجرعها فيستعصي على الروح استساغةُ طعمها، لكن ما تلبث أن تتذوق
سلسبيل وحلاوة الشهد في نهاية الأمر.
في
ظل استغراق وإسهاب خالد التأملي وسط الحديقة سقط فنجان القهوة فجأةً وتناثرت أجزاؤه
في أرجاء المكان وانسكب مزيج القهوة بين الحشائش فتعانق السواد مع الخضرة!!
يا
إلهي ما هذه الأصوات التي أسمعها!!
إنها
صرخات أمي تتعالى في أرجاء البيت!!
فزع
خالد على الفور فراغ يجري لداخل البيت، لقد كانت أصداء الصراخ آتية من الدور
العلوي حيث غرفة شقيقته شيماء ، فأخذت أقدامه تتسارع صاعدةً نحوها وصيحات الأم
المفزوعة قد شققت جدران كل شيء وامتلأ فؤاد خالد بالهلع حينها. ما أن دخل خالد
لغرفة أخته حتى رأى قطرات من الدم مسكوبة على الأرض، أخذ يتتبعها ثم جعل يرفع رأسه
قليلًا ؛ ليبصر وجه أمه جالسة عند طرف السرير وكان وجه البطانية وأطراف الوسادة
ملطخة بالدماء ورائحة الموت قد فاحت في أنحاء الغرفة، كانت الأم تُمسك بيد أخته
شيماء التي كانت أوردتها مقطوعة بشفرة حادة ودموع الأم المفزوعة تتقاطر على عروق
يد ابنتها، بدا خالد حينها مشلولًا عن الحركة من هول ما رأت عيناه وفجعة ما أحست
به روحه. في تلك الأثناء هرع سعد يجري للغرفة بعد سماعه لأصوات البكاء وصيحات
العويل الصادحة، رأى شيماء غارقة ما بين دماء نازفة من يدها ودموع أم منسكبة عليها
فحملها على الفور ليأخذها للمستشفى.
مضت
عدة أيام قضتها شيماء في المستشفى، ذهب خالد ترافقه والدته وإخوانه لزيارتها والاطمئنان
عليها، تذكر خالد خلالها زيارة الماضي الغائب في شكله لكنه حاضرٌ في شعوره، تذكر
حينما زار والده الراحل تلك الزيارة الخالدة بكل أحاسيسها والتي حُفرت ووُشمت
ونُحتت في نفس خالد، لم يمحوها تعاقب السنين على موت والده لأنها زيارة قربت تلك
المسافات البعيدة بينه وبين والده والتي كان ياسر يعمل بحرص على زيادة هوتها
وفجوتها وتباعدها فنجح شكلًا في ذلك، لأن الأرواح كانت تتوق وتشتاق لبعضها البعض
ضمنيًا.
في
تلك الأثناء كانت شيماء مختلفًة جدًا، كانت الحياة تُدب في عروق وجهها فكانت باسمة
الثغر وأساريها مبتهجة وطلتها بهية. كانت آثار القطع التي في عروقها باقيةً لكن ما
دام أن حالتها النفسية الآن قد تغيرت للأفضل فهذا هو أهم شيء الآن وستزول تلك
الجروح مع العلاج المستمر.
سمع
الجميع باب الغرفة يُطرق!! يا إلهي إنه ضاحي شقيق خالد وشيماء، لقد جاء لزيارتها،
لكن ماذا كان يحمل معه؟
لقد
كان يحمل دُبًا صغير وجميل اشتراه ليقدمه هديةً لشيماء. كان خالد يرى دومًا في
ضاحي ذلك الشخص القريب جدًا من شيماء بحكم أنهما يعتبران آخر عناقيد تلك الأسرة
الجريحة.
كان
خالد يُحس دومًا بتلك العلاقة الحميمية الأخوية العميقة بينهما لكنه في المقابل
كان يخشى من ألاعيب أخيه ياسر للتفريق بينهما. خالد كان يعرف تمامًا تفكير أخيه
ياسر فهو يراقبه نفسيًا وحسيًا فيعلم ما تكن أسارير شقيقه من مخططات ليبقى الإخوة
متباعدين ومتفرقين ومتشتتين.
تذكر
خالد في تلك اللحظة مقولة أخيه ياسر في أحد اجتماعات الأسرة حيث كان يقول له:
إخوتك الإناث ليس لهم حقٌ عليك سوى تلبية حاجاتهم أو لوازمهم فقط لاغير...
لا
تجلس معهم أو تخالطهم أو تقترب منهم...
الأخ
حينما يجلس مع أخواته تنقص قيمته وتذهب هيبته وتفنى رجولته...
بعد
أن تذكر خالد تلك المقولة التي سمعها من أخيه جعل يحدث نفسه:
يا
لهذا الجاهل السطحي...
هل
يعتبر جلوس الأخ مع أخته نقصان في القيمة وذهاب للهيبة وفناءً للرجولة!!
بدأت
شيماء بالضحك مع ضاحي وشاركهم الجميع الضحكات والأحاديث وظل خالد خلالها غارقًا في
صمته لا ينبس ببنت شفه فلا تظهر منه سوى ابتسامات عابرة يجامل بها نظرات الحاضرين
ويقاوم خلالها حزنه الدفين وخوفه من أن تطال يد شقيقه ياسر لتقتل ابتسامات أخيه
ضاحي كما طالت ابتسامة أخته شيماء والتي كادت أن تفقد حياتها بسببه.
في
أثناء تسامر الأم والإخوة مع أختهم شيماء أحس قلب خالد بخطوات شخص كانت حساسةً في
صوتها!!
لقد
كان القادم ياسر حاملًا معه باقة زهور!!
يا
إلهي إن منظره يذكرني بمن لا يعي حقيقة جمال الزهور فهو يحمل شيئًا ينبض بالحياة
فيما مشاعره ميتة.
ارتسم
الذبول والصفرة على وجه شيماء الجميل، أحس خالد بما شعرت به أخته فهو يعلم يقينًا
أنها لم تكن لتصل لتلك الحالة التي كادت أن تفقد فيها حياتها إلا بسبب سطوة وتسلط
ياسر على الجميع وما هي إلاّ أحد أولئك الأشخاص الضحايا. لقد قتل ياسر كل شيء جميل
في نفسها، لقد كانت شيماء تحب وتهوى الرسم، حقر ياسر وقلل من ذلك الأمر بل وتجاهله
تمامًا ، فكان يتندر من هوايتها ويهزأ بها وفي لحظة يأس وضياع كادت أن تقتل نفسها
في الوقت الذي كان يتحتم على ياسر أن يحتوي مشاعرها وأحاسيسها النفسية لاعتبارات
كثيرة لعل أبلغها أنه الراعي الأول والأوحد لهذه الأسرة والمستأمن على أفرادها،
لكن العكس كان هو الواقع. لم يكن ذلك السلوك من ياسر إلاّ ترجمة لأحداث ماضية سابقة
كمنعه المستـميت الذي مارسه على شقيقه خالد حينما أراد إكمال دراسته في مجال الأدب
فقتل في نفسه الشعور بالأخوة تجاهه.
أخذ
ياسر مكانه بالجلوس ليجلس معه الصمت الرهيب والسكوت المهيب على وجوه وأفواه الجميع
، لكن نفوسهم كانت تضج بالحركة الداخلية التي كانت ترفض ذلك السكوت والصمت لكنها
مجبرة على قبوله رغمًا عنها وليس بطوعها، إما لدافع الخوف أو لدافع الضعف أو
الجهل. وضع ياسر باقة الزهور الذابلة بين يديه الميتة جانبًا، أخرج كتابًا كان
يحمله وينوي إعطاءه لشيماء، وضعه على الطاولة ثم لم يلبث طويلًا في جلوسه لينصرف
بعدها مخلفًا غبار لحظات أليمة وأوقات قاسية، شرقت من غبارها أنفاس جميع الحاضرين.
خالد..خالد..خالد..هيا
تعال يا بني لتساعدني في حمل حقائب أختك فهي تنتظرنا مع إخوتك في السيارة لنعود
للبيت، حسنًا يا أمي ها أنا آت إليك..إني أتفقد عما إذا كانت شيماء قد نسيت بعض
أغراضها في الغرفة دون أن تنتبه.
يا
إلهي...!!!
الشيخ
عائض القرني((أسعدُ امرأة في العالم)) إنه الكتاب الذي أهداه ياسر لشيماء، يا إلهي
لقد نسيته شيماء!!مهلًا مهلًا يا خالد هي لم تنسه بل لم تحس برغبة ودافع لقبول تلك
الهدية في الأصل.
فتح
خالد صفحة الكتاب فسقطت عيناه على كلمات كتب ياسر لشيماء في طيها:
إهداء
إلى الأخت شيماء، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم(من يرد الله به خيرًا يفقه في
الدين)، فربما حب الله لكِ ورحمته هو ما ساعدك في تجاوز محنتك، فسبحانه حين قال:
إن رحمتي سبقت غضبي. أهدي لكِ هذا الكتاب والذي أتمنى أن يزيد من حب الله لكِ، وأن
يكون له بصمة في حياتك وذريتك إن شاء الله.
أخوك/ ياسر
نظر
خالد للكتاب والكلمات التي سطرها شقيقه ياسر فما زال يتأملها ثم قال في نفسه:
كتابٌ رائع و كلمات جميلة وتحمل معاني معبرة ، لكن للأسف يا ياسر فجميعها قُدمت
بشكل خاطئ لا يعبر عن الظاهر والشكل الذي كانت عليه علاقتك بشيماء بل ومع جميع
الإخوة.
ليتك
أضفت يا ياسر حرف الياء لكلمة الأخت ليكون المعنى أجل وأوضح ولتنسب بذلك الحرف
البسيط معاني إخوتك لها.
ليتك
علمت أن الأُخُوة في حقيقتها هي مشاعر داخلية حميـمية وأحاسيس عميقة مترابطة تكون
في النفوس وليس مجرد هدية عارضة لا لون ولا طعم لها.
ليتك
تأملت وتعمقت في حقيقة تلك الكلمات التي سطرتها يديك وعرفت معانيها الخفية فلم يكن
ليحصل ما جرى لشيماء.
ليتك
فهمت أن الشيخ عائض القرني حينما ألف ذلك الكتاب كان من مقاصده أن من أسباب سعادة
المرأة هو أن ترى من إخوتها المظاهر الأخوية فينبغي أن تحس وتشعر عبرهم بأحاسيس
ومشاعر الإخوة ومعاني الاحتواء النفسي.
ألا
يا ليت شعري أيها الشيخ النبيل لو كان ياسر وعى واستوعب معاني كلماتك تلك ومعاني
كتابك لكان عرف أن ما جرى له كان هو المسؤول عنه لكن لا حيلة لمن غيّب شعوره وجعل
رؤيته سطحية لما هو حوله.
حسنًا
سوف أحتفظ بالكتاب لدي لأقرأه فربما سأحتاج يومًا ما لورقة الإهداء التي سطر فيها
ياسر كلماته فشيماء لم ترغب بذلك الكتاب نظرًا لأن من أهداه لها هو ياسر ففضلت
تركه هنا.
خالد..خالد..ألم
تنتهِ بعدُ يا بني هيا تعال لقد تأخرنا فالجميع ينتظرنا عند السيارة!! قطعت نداءات
الأُم مجددًا تأمل خالد للكتاب، جمع ما تبقى من الأشياء التي في الغرفة ومضى نحو
أمه ليعودا للبيت.
أخذت
الأم تعاتب خالد على تأخره قائلة بصوت متوتر يغلفه القلق: لماذا تأخرت يا بني
فشقيقك ياسر ينتظرنا في السيارة فماذا سيظن بنا الآن؟ سيشك أننا نتسكع في ممرات
المستشفى!!
أجاب
خالد أمه: ولماذا يظن ذلك الظن السيئ فينا يا أمي، ألست معك الآن وهذا ينبغي أن
يكون مثار اطمئنان لديه؟
قالت
الأم بنبرة طوقتها تناهيد حزينة: أنت لم تعرف ذهنية شقيقك ياسر بعد يا بُني، هيا
بنا الآن لنعود للبيت.
خالد:
حسنًا يا أماه.
حمل
خالد الحقائب عن أمه ثم سار معها مطأطئً رأسه للأرض...
أخذ
يفكر في جواب أمه عندما ذكرت عدم معرفته بذهنية شقيقه والتي لم يعرف حقيقتها أحدٌ
سواه فجلس يقول في نفسه: بل العكس هو الصحيح يا أماه فأنت من غاب عنك
حقيقة
ذهنية شقيقي، لكن ماذا عساي أن أقول لك يا أماه فلو انتبهت له منذ صغره جيدًا ولم
تمنحه السلطة علينا وعلى الإناث بشكل خاص لما نتج هذا الواقع المأساوي الذي نمر به
الآن.
لقد
كان ياسر يا أمي يمارس سلخًا لجلد الأُخُوة دون أن تدرين فكان يتذرع أنه يحمينا
ويحرص علينا فتمكن ظاهريًا من ذلك فأصبحنا مستسلمين له فلم نكن نملك الجرأة أن
نطالب بحقنا في ميراث أبي أو أن نبدي مجرد الرأي رغم أنه حقٌ مسلم لنا.
لقد
كان ياسر يا أمي يحاول عبثًا اقتلاع مشاعر كل أخ تجاه أخيه وكل أخت تجاه أختها، هو
أراد إذابة جسور الأحاسيس بيني وبين إخوتي الإناث فلم يرد أن يكون بيننا تقارب
يذكر، أراد مسخ أواصر الإخوة بيننا لكنه لن يصل لمبتغاه.
لقد
كان ياسر يا أمي ينظر للمرأة أنها كالدمية بالنسبة له، ما برحت جهوده ولا توقفت
مساعيه ولو للحظة عن رمي بذور الشك المدمر والظن السيئ في قلبك يا أماه تجاه
أخواتي الإناث.
لا
ألومك يا أمي فأنت لا تعين فداحة وسلبية ما تقومين به من أفعال أو سلوكيات تربوية
تجاه الإناث فتفضلين هذه على تلك وتقربين الأخرى على حساب الثانية وتؤثرين الذكور
على الإناث. حياتك البائسة يا أمي كانت تتـمزقُ من الفرقة وتتقطع من التفضيل اللذين
رأيت وعايشت معانيهما المرة والموجعة في محيطك فنهشت أنياب ومخالب ماضي أسرتك
أجساد حاضر هذه العائلة يا أماه.
لقد
كان ياسر يا أمي يظن نساء العالم أجمع أنهن نساءٌ سيئات..
نساءٌ
سافرات..
نساءٌ
ماجنات..
نساءٌ
فاجرات..
لأن
ماضيه كان كذلك..ماض سيء..
ماض
سافر..
ماض
ماجن..
ماض
فاجر فهو يتقوى دومًا على الإناث مستغلًا محبة أبي الفارطة له، كان لا يمارس
سردياته التسلطية وسطواته الاستبدادية على الإناث خصوصًا والذكور عمومًا في ظل
وجود أبي لكن ما أن يغيب أبي فهو لا يتوانى عن بث الرعب وزرع الشك في نفوسهم تجاه
بعضهم.
ها
قد سنحت له الفرصة الآن يا أمي ليفرد عضلاته القمعية فها هي أولى النتائج أن كانت
أختي ستنتحر بسبب أخ أناني يريد التحكم بالجميع..ليتدمر الجميع.
لقد
تداركتك رحمة الله تعالى يا عزيزتي شيماء، فلتسامحيني فأنا لم أقدم ولم أبادر بفعل
شيء سوى تعابير وجه متحرك رغم شللها المطبق وصرخات نفس متكلمة رغم صمتها الرهيب...
لست
أملك يا أختاه تفسيرًا وتعليلًا لذلك الشيء الذي أحسه..ربما كان سحر الخوف النفسي
من ذلك الكهنوت المسمى ياسر، لكن ثقي أن روحي مع أرواح إخوتي ستبقى متعلقة بكم
بعضها مع بعض كسلسلة لا تنفك حلقاتها وعقد لا تنفرط حباته أبدًا لأن الحُب الأخوي
الروحي يسكن في أعماقنا.
لابد
أن تأتي لحظة ينكسر فيه بنيان ذلك الصنم الذي أخافنا في الصغر لأني لا أريد يا
أختاه..يا إخوتي..بل يا نفسي أن يبقى كذلك ونحن في الكبر...
لابد
أن تأتي لحظة تكشف لكم مدى التغييب النفسي والاختطاف العقلي الذي كان يمارسه ياسر
عليكم وأنتم عنه غافلون..ساهون..لاهون..لابد أن تأتي...
في
مساء اليوم التالي كان خالد جالسًا في مجلس البيت ساهبًا في تأمله للشمس الآزفةً
في طريقها نحو الغروب وخيوطها موشكة على التمزق شيئًا فشيئًا...
يا
إلهي كم هو معبرٌ لون الشمس فها هي آخذة في الاحمرار الداكن المتوهج...
لونها
بالتأكيد ليس كذلك إلاّ في وقت النهار...
لونها
يختلف بسبب ذرات الهواء والغبار وشوائب الجو فهي خليطٌ من كل الألوان لكن حالما
يمرق الضوء يتحول اللون بالنسبة لعيننا المجردة البعيدة، كذلك هي كثيرٌ من الأشياء
في هذه الحياة قد تبدو ألوانها واحدةً بالنسبة لنا لكن لو رأيناها عن كثب وعلى
الطبيعة لرأينا بالفعل أنها قد تحمل ألوانًا كثيرة وربما وجوه كثيرة وليس وجهًا
واحد...
في
تلك اللحظة سمع خالد صوت ياسر يعوي ويعلو ويصدح بالصراخ ليزلزل صداه أرجاء البيت ،
فما لبث أن دخل للمجلس فجأةً وما أن رآه جالسًا حتى قال ساخرًا منه:
هؤلاء
هم المرضى النفسيون دومًا يجلسون لوحدهم...
هيا
اذهب ونادِ على أخواتك الإناث وتعالوا جميعكم فلدي كلامٌ أريد قوله لكم.
ذهب
خالد يجر خطواته المرعوبة ويحاول جمع شتات نبضات قلبه المفزوعة من ياسر بعد
مصادمته له كما هي العادة لكنه اعتاد العيش في جو الإرهاب النفسي تحت ظله ويشاطره
نفس المشاعر أخواته الإناث المغلوب على أمرهن.
نادى
خالد أخواته ليتوجه الجميع لمجلس البيت وبعد أن جلسوا بدأ ياسر في إشعال سيجارته
بكل جرأة دون تقدير أو احترام لإخوته ليتصاعد دخان حديثه التهكمي والاستعلائي
قائلًا لهم:
حال
هذا البيت لا ترضيني أبدًا... بل هي تثير غضبي...
تستفزني...وأنا
صعبُ المراس حينما أغضب فغضبي لا يوصف.
بالأمس
كانت أختكم على وشك أن تفقد حياتها...بسببكم أنتم...لا لا بل بسبب
أبي
كذلك فهو لم يحسن تربيتكم على الوجه المطلوب فترك لكم الحبل على الغارب...
لقد
أصبحتم تسرحون بعقولكم وتفكرون دون حسيب أو رقيب يضبط حركة تفكيركم.
أخرج
ياسر من جيبه ورقةً ليعرضها على إخوته ثم عقب عليها قائلًا:
هل
تعلمون ما في هذه الورقة؟؟؟
في
تلك اللحظة ارتسمت علامات من التعجب والوجوم على وجوه الأخوات الضعيفات بما فيهم
وجه خالد...
واصل
ياسر حديثه: حسنًا أعلم أنكم أغبياء لذلك سوف أخبركم بشأن هذه الورقة...
هذه
الورقة هي رسالة كتبتها شيماء لمعلمتها، كتبت في رسالتها كلمة-أمي- فهي تعتبر
مدرستها بمثابة الأم لها...تبوح لها بمشاعر المحبة والمودة لها...
هل
أصبحت معلمة المدرسة بمثابة الأم لكم أيها البنات؟
يا
لهذه الفضيحة التي جلبتها لي هذه البنت ، بل يا لهذا الخزي والشنار الذي قامت
بفعله عندما اعتبرت معلمة المدرسة الغريبة بأنها أمها.
لقد
قطعت عهدًا على نفسي بعد وفاة أبي أن أُحسن تربيتكم بالقوة وسأنفذ وعدي.
أنا
أعلم دومًا ويصلني كلامكم عني أنكم لا تحبوني وأنا كذلك((لا أحبكم)) لأني أعرف
يقينًا أين سوف أجد الحب الحقيقي..؟؟
الحب
الحقيقي سأجده عند زوجتي وأولادي..!!
أما
أنتم فلست أنتظر أي حب منكم هل تفهمون ذلك..؟؟
أنهى
ياسر حديثه ثم مضى في شأنه تاركًا خلفه رماد كلاماته واعترافاته الصريحة لإخوته
بعدم حبه لهم وبأنه لا ينتظر منهم الحب.
انفض
المجلس ومضى الإخوة ذاهبين إلى غرفهم بكل هدوء بعد رصاص كلمات ياسر لهم...
أخذ
خالد حينها يفكر في اعتراف ياسر الواضح في كل معانيه فجعل يقول في نفسه:
يا
لغرابتكم يا إخوتي، هاهو ياسر الذي جرعنا المرارات...الويلات...المآسي...
وعشنا
في ظل وجوده لحظات وأيام بل وسنين مليئة بالقلق...التوتر...
التشنج...الخوف...الرهبة...بعد
هذا الاعتراف الكافي والوافي بأنه لا يحبكم...بل هو لا ينتظر منكم الحب، أوليس ذلك
الاعتراف كفيل يا إخوتي لكي نعرف حقيقة هذا الأخ التي
لست
أدري هل نحن نعرفها في الواقع أم سنقول أنه نطق بها في لحظة غضب عابر.
لست
أدري يا إخوتي عن سبب خوفنا...ضعفنا...وهننا بل وعجزنا عن مواجهته، فربما أنه قد نجح في زرع الخوف وحقن الرهبة في
قلوبنا فأصبحنا خانعين...خاضعين... مستسلمين له في كل الأحوال والأوقات ، فأصبحنا
كالدمى بين يديه يتحكم بها ويوجهها كيفما يشاء ووقتما يشاء وأينما شاء.
إنه
الاختطاف العقلي يا إخوتي لا شيء سواه هو سبب ما وصلت له حالتنا التي نحن عليها
الآن، لقد نجح ياسر أن يسلب عقولنا تحت مطية أنه الحامي لنا وهو في حقيقة وواقع
الأمر خاطفٌ ماكر، خطف شخصياتنا بل وطمس على قلوبنا وعيوننا لكي لا يفسح المجال
لنا أن نتفتح ونتعرف على حقيقته ليستمر في بسط نفوذه وتأثيره علينا، لكن لا شيء
سيدوم حاله يا إخوتي...
لا
شيء سيدوم على حاله يا ياسر...
سيأتي
يومٌ نتحرر فيه من قبضتك علينا...
سيأتي
اليوم الذي تذوب فيه الثلوج ونرى بعده شكل المروج...مروج الحقيقة والتي إن لم تكن
ألوانها خضراء جميلة فهي بالطبع ستكون أحسن بكثير من ألوان السراب الكاذب التي
رسمتها في مخيلة هؤلاء الإخوة الضعفاء المساكين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق