كانتا صديقتين متحابتين منذ سنين زمان بعيد مضت وانقضت،كانت تلك الصديقة تذهب مصطحبة ابنتها الكبرى وبقية بناتها الصغار لمنزل صديقتها على الدوام، فيجلسن سويا يتجاذبن أطراف الحديث على طاولة اجتماع حميمي تحت أضوء شفق النهار المتمزق الآزف بالرحيل وبريق مزيج الشاي الأحمر المعفر بحبات الحبق الزكية ووضح خيوط القهوة الذهبية المبهرة بحبوب الهيل والزعفران وقطع الرطب المجعد الذائب في فم آكله وصنوف المكسرات الحاليه والمالحه المشكله والملونه، كانت تغاريد أصوات الصديقات تجوب أرجاء تلك الصالة التي كانت جدران تحفظ همسات كلامهم فكانت الأحاديث منوعة عن النساء وأخبار تلك الجارة وتلك المرأة وذلك العرس وماذا لبسن النساء فيه وماذا كان عشاءهم وكيف كان شكل العروسان وكوشة الفرح وكم كانت هي كثيرة حروف وكلمات أحاديث تلك الصديقات التي كانت مبعثرة وملقاة على طاولة لقائهن ليختاروا ما يتحدثن به فكانت تلك الحروف والكلمات تتحرك وتهتز لها تلك الطاولة حسب نوع الحديث الصادر من شفاه تلك الصديقات إن كان الحديث فرائحي فهي تبدأ بالتراقص والتمايل فتهتز الطاولة لفرحهن وإن كان الحديث حزائني تبدأ بالتعانق فتمسك بأيدي بعضهن البعض فتنكسر جنبات الطاولة تعبير عن حزنها وهكذا على ذلك المنوال يكون حال تلك الحروف والكلمات والطاولة.في تلك الأثناء كان أولاد كلا الصديقتين يلعبون دوما في حديقة المنزل مع كل لقاء تجتمع فيه أمهاتهم،فيأخذون تلك الكراسي ذات اللون الخمري والمخملي حيث كان يكسوها الغبار فيقومون بمسحه فيحملون الكراسي ويقومون بوضعها بشكل دائري بحيث لا تكون مساوية لعددهم فيدورون حولها وفي لحظة مفاجئة يتوقف الجميع فيتسابق كل واحد منهم على حجز كرسي ليجلس عليه ومن يبقى واقفا يعتبر هو الخاسر وبعدها يغط الأولاد في الضحك البريء على بعضهم البعض،في تلك الأثناء كان هناك ولد صغير يحمل أثناء لعبه مع الأطفال رغيف خبز يأكل منه وكان يشعر بالحر قد أصابه فأخذ يهف برغيف الخبز نحو وجه وكان في الجوار الإبنة الكبرى لتلك الصديقة تراقب لعب الأطفال الصغار فأخذت تقول للولد الصغير: لا تهف برغيف الخبز على وجهك فهذه نعمة الله عز وجل فابتسم الولد الصغير بعد تلك المقولة.في عصر أحد الأيام سمعت تلك الصديقة رنين الهاتف،بدت رناته مرهقة ومجهدة فأمسكت الصديقة بسماعة الهاتف للرد على المتصل، كانت سماعة الهاتف في تلك اللحظة كما لو أنها ستلفظ ما بداخل جوفها ليخرج من عنقها التي تمسك بها يد الصديقة،جاء أثير ذلك الصوت المتكلم المبحوح لقد كانت المتصلة صديقتها تنعى خبر نبأ وفاة ابنها،وضعت الصديقة سماعة الهاتف وبقيت ضاغطه عليها فكأن زر الاتصال الذي وقفت عليه السماعة قد بلع لسانه من وقع ووطأة الخبر،هنا تأمل الولد الصغير ملامح وجه أمه الحزينه وتلك الدموع التي كانت تذرفها بانسيابية كحبات لؤلؤ تتهاوى عبر خديها التي تشبه قماش حرير ناعم فسكن الأسى قلب تلك الأم حزناً على مصاب صديقتها وما ألم بها من وفاة ابنها.تفرق شمل الصديقتين وحلت القطيعة بينهما بسبب وشاية كلام ونميمة حديث دخلت فيما بينهما فقطعت أواصر صداقة ورفقة درب بين الصديقتين فتجمدت مياه معرفة عذبة كانا يتشربان من صافي نميرها.مضت السنين متشظية بأيامها ولياليها يقطع بعضها الآخر على قطيعة العلاقة بين الصديقتين،وذات مساء مساء رن جرس الهاتف فرفعت الأم السماعة لتجيب المتصل،كانت المتصلة هي إحدى صاحبات تلك الأم،كان قلب صوت المتصلة نبضاته متسارعة وبعد أن رحبت الأم بها صمتت المتصلة لحظات فآثار صمتها خوف الأم ثم أخذت المتصلة تقول: عظم الله أجرك في رفيقتك وصاحبتك أم عبدالله غفر الله لها،هنا ابتلعت الأم غصات وحجارة حزنها الدفين ثم قالت كيف ماتت؟ فقالت المتصلة: كانت قد أعدت حقائبها للسفر وبعد زيارتها لأحد بناتها ضاق عليها التنفس وسقطت مغشيا عليها ولم تسعفها محاولات الإنقاذ ففاضت روحها لبارئها،ربما ضاق تنفس تلك الصديقة لأن نسيم هواء صديقتها قد غاب عن محيط تنفسها لسنوات،أغلقت الأم سماعة الهاتف وتكرر مشهد سابق ليعانق مشهد لاحق فتحشرج فؤاد تلك الأم المكلومة على رحيل رفيقتها،تأمل الولد الصغير حزن أمه يتكرر مرة أخرى بنفس ذلك المشهد الذي عاشه معها فاسترجع عقله ذلك الموقف من سجلات أرشيف الذاكرة فكان كالشاهد للحظتين من الحزن عاشتها روح أمه في الماضي والحاضر.ذهبت الأم مع ولدها الصغير لتعزية أبناء صديقتها،التقت بالإبنة الكبرى لصديقتها بعد طول انقطاع فقامت بتعزيتها.ذات يوم حان موعد زواج أحد أبناء الأم وقبل موعد الزواج أخذت الأم توجه رقاع دعوات العرس على صديقاتها وجاراتها،أخذ الولد الصغير بطاقة دعوة خلسة دون أن تعلم أمه وقام بإرسالها للإبنة الكبرى لصديقة أمه،حان يوم الزواج وحصل التلاقي بين الأم وابنة صديقتها القديمة فكان عناق الذكريات واللقاء على طاولة مناسبة الزواج وعادت الحروف والكلمات لتتراقص وتتمايل على الطاولة من جديد كما كانت تفعل ذلك في ماضي الوقت، فابتسمت الأم الجميلة في وجه نفسها عند تلك اللحظة..........سعود المحمود
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق