الأربعاء، 7 ديسمبر 2011

دموع مرآة وانكسار قلب وعبير موت


ذات مرة كانت تلك الأم جالسة في غرفتها، كانت ممسكة بمشطها الهرم ذي الأسنان المتآكلة لتسرح به شعرها الذي غزاه خريف العمر ورسم بين خصلاته الجميلة تجاعيد الزمان،كانت تلك الأم تنظر لمرآتها وتبتسم،في الطرف الآخر كان ذلك الصبي الصغير يتأمل انعكاس وجه أمه على المرآة،لقد رأى وجه أمه الجميل كالقمر الوضاء في تمام بدره،فجأة وفي لحظة سريعة تغير شكل تلك المرآة فكأن وميضاً أبيض جلس ينبعث ويتوهج منها، عرضت تلك المرآة شريط أحداث حياة تلك الأم التي مازالت مسترسلة في تسريح شعرها دون أن تشعر بأن تلك المرآة تقوم بإعادة سالف حياتها.لم تكن تلك الأم قد أتمت تعليمها الدراسي فتوقفت عند صفوف المرحلة الابتدائية الأولية فلم تنل حظوتها من التعليم فنست كيف هو صوت الكتابة ودقات نبض القراءة، عاشت تلك الأم وترعرعت في بيت متواضع،خجول في بنيانه،عفوي في بساطته،منزوي ومغرورق في نسيج أحد حارات دمشق القديمة المتشبثه في قلب بلاد الشام.في أحد الأيام طرق باب ذلك البيت أحد القادمين من بلاد بعيدة، كانت جدران البيت باردة لكن كأن مشاعر تلك الجدران قد امتزجت وذابت مع صوت تلك الطرقة الحانية، لقد كان الطارق رجُلاً قادم لطلب يد تلك الأم للزواج منها.مضت الأيام وتزوجت تلك الأم من ذلك الرجل صاحب الطرقة الحانية، حزمت تلك الأم حقائبها استعداداً للإنتقال لبلد ومجتمع وحياة أخرى، وقفت ذكريات ذلك البيت جانباً عند غرفة الأم وجلست تخاطبها قائلة: هل سوف نذهب معك أيتها الأم العزيزة أم أنك ستودعينا من عتبة باب هذا البيت؟ فأجابت الأم بقولها: لا بل سوف ترافقونني بدون شك، هيا تعالوا بسرعة وادخلوا في هذا العباءة وإن أحسستم بالضياع فاختبئوا فوراً في ثنايا شعر رأسي فهي آمنة ولن يسرحكم أحداٌ سواي، أسرعت تلك الذكريات بالدخول في جعبة تلك العباءة.جلست تلك الأم تلقي نظرة الوداع لأبيها وأمها وأخيها وقامت عيناها بالتقاط صورة تذكارية لأفراد تلك الأسرة لتحفظها في سجلات عقل الأم.أقلعت الطائرة لتحط رحال خُطى الأم على أدراج منطقة نجد ذات البيئة الحجرية والتربة الصحراوية ورياحها الحارة، أجواء طقس تختلف عن أجواء تلك الديار ذات الهواء البارد والثلج المترامي والأنهار الجارية، لكن تغير تلك الأجواء لم يكن ليغير شيئاً في الطبيعة التكوينية لجغرافية نفس وروح تلك الأم التي تعودت على شقاء البؤس منذ صغرها وحتى صيرورة عمرها.مضت الأيام وجاء طيراٌ مرسال ليخبر الأم بوفاة أبيها، انكسر قلبُ الأم حُزناً على وفاة أبيها وهي بعيدةٌ عنه فكانت تلك أولى الضربات القاسية التي ارتمت دون شعور على عاتق وظهر تلك الأم القوية.في الجانب الآخر وبينما كانت الأم مستغرقة في تسريح شعرها لاحظ ذلك الصبي الصغير أن المرآة بدأ توهجها يخبو ويضعف تدريجياً حتى عادت لكينونتها الطبيعية دون أن تشعر تلك الأم، كانت هناك صورة مستمسكه في زاوية المرآة ومتشبثه بها وفجأة سقطت تلك الصورة! وهنا انتبهت تلك الأم لسقوط الصورة فوقع منها مشطها دون شعور فأمسكت بتلك الصورة قائلة: اللهم اجعله خيراً، في تلك الأثناء رأى الصبي الصغير أن المرآة كانت تلمع! لقد كان ذلك لمعان دموع تلك المرآة! فدموعها سقطت لأن قلبها قد سقط منها، لحظات سريعة تلقت بعدها الأم خبر وفاة أمها فأجهشت في البكاء وكانت تلك الضربة الثانية القاسية التي ضرب معولها روح تلك الأم، سمع الصبي الصغير صوت شيء كان يتشظى ببطئ في انكساره ثم ما لبث ذلك الصوت أن هدأ! لقد كان ذلك صوت انكسار قلب أم كان يعيش في وسط نفس تلك الأم، جلس الصبي الصغير يبتهل إلى الله مردداً تراتيل الدعاء وترانيم الرجاء قائلاً: يا رب أرجوك أن تخفف من وطأة ودوي الأخبار والأحداث على ظهر تلك الأم العجوز، تسارعت الجهود حثيثة لتوفير طائرة عاجلة لترى تلك الأم وجه أمها للمرة الأخيرة لكن صدى صوت تلك الطائرة تاه وضاع في سديم ضباب أججه دخان حزن وألم الأم المكلومه فلم يلحق صوت تلك الجهود بركب غبار تلك الطائرة فماتت الجهود في وسط عاصفة الأسى التي عصفت بآمال الأم التي كانت تتطلع لإشتمام عبير موت جسد أمها الراحلة.لا تحزني أيتها الأم الجميلة،أيتها الأم النبيلة،يا صاحبة المشاعر الجزيلة فهذه هي الحياة تضرب بكافة أشكالها وألوانها دون تمييز واختارتك أنت لأنك جبلاٌ عظيم،أيهم،صُلب لا تهزه رياحُ عاصفةٍ عاتية لتحاول يئساً وعبثاً كسره، ستبقين قوية كشجرة بلوط شامخة ذات ظلال وارفة يقف على أغصانها بلابل لتشدو بأناشيد أمل وتحلق حولها طيور أشواق فهي لأجلك أنت تنساق، ستبقين قوية كما عرفك صبيك الصغير......سعود المحمود

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق