الأحد، 27 نوفمبر 2011
وجـــه مـــوت على جبين سنــة جديدة
استيقظت صباح هذا اليوم على أصوات رياح حزينة منبعثة عبر نافذة غرفتي المفتوحة وكذلك بدت تلك الأشجار الواقفة في حديقة منزلنا والحشائش بدت صامته، كان جسد فراشي كما لو أن جراحاً ألمت به لكني لم أشاهد منظر نزيف دماءه لكني كنت أشتم رائحة تلك الدماء وأسمع حسيسها وهي تنزف، هنا أضاء نور هاتفي الجوال فكان نوره خافتاً شعرت أن صوته بدى مبحوحاً من غصةٍ ألمت به فكأنه يشير إلي أن تعال وأمسك بي فلقد شرق حلقي فلم أستطع مناداتك ورفع صوتي بالصراخ،تعال يا من تدعي وصل ليلى بالكتابة،تعال أيها القلم النبيل لتعزف سيمفونة حزناٍ أصيل وألحان قيثارة ضاقت حبال صوتها، العليل،تعال لكي ترتجف أركانك وترتعد فرائصك عندما أسمعك رنين وقرع حروف الموت وحبائله التي ستلتف حول قلمك الهزيل.اقترتبت من جسد هاتفي،ما أن لمسته يدي حتى شعرت ببرودة أطرافه لا أدري هل كانت تلك الجدران الباردة هي من أرسلت ببرودتها لجسم هاتفي البارد أم أن برود مشاعر أصابتني فنقلت عدواها لجسمه النحيل.أمسكت بذلك الهاتف جيداً فلقد كان يرتجف من تلك الرسالة التي وقفت جاثمة على صدره المتشظي حزناً وكمداً فكأنما حممه الثائرة الحزينة لم تنفجر في وجهي مباشرة إلا بعد أن تحكم قبضتها على قلب ذلك الهاتف وتأخذ نصيبها من قلبه الإلكتروني الذي عانق بين سجلاته رقم شخص أحبه،هنا أصبح الهاتف جثة هامدة لا حراك فيها ربما احتاج لإعادة شحن كهربائي!! لا بل ربما لعملية صعق كهربائي تعيد له موجات الحياة،لكنه لم يجب نداءات تلك الصعقات الكهربائية رغم أني كنت أضغط على قلبه الميت، هنا قرأت تلك الرسالة التي وصلت كخنجر لا يرحم توسط قلب ذلك الهاتف،فكانت رسالة نعي وعزاء من ابن جارنا القديم في الحي الذي أقطن فيه،ذلك الشيخ الذي كتبت عنه ذات مرة في هذه المدونة تدوينة بعنوان-حياكم الله بين المغرب والعشاء-فجاءتني رسالة ذلك الابن ينعى فيها والده الشيخ،بعد أن قرأت حروف رسالة الموت،اشتغل فجأة شريط تلك الذكريات الجميلة التي ارتبطت فيها مع ذلك الشيخ العجوز،استجلبت ذاكرة العقل الإلكتروني ذكريات ذلك المسجد الذي كنا نجلس فيه سوياً مع ذلك الشيخ وأصحابه،نشرب فيه تلك القهوة التي كانت خيوطها تنسدل كوميض شمس براقة ما تلبث أن تشرق ثم تخبو،وحبات الرطب المُجعد ذا اللون الذهبي تشبه قطعة حريراً مزركشة جميلة رغم تجعدها،لقد جفت منابع مياه تلك القهوة فأضحت اليوم جافة متيبسةٌ تربتها وذلك الرطب أضحى صلباً قاسياً بعد وفاة صاحبه.كانت المرة الأخيرة التي زرت فيها ذلك الشيخ العجوز قبل نحو شهر،زرته في بيته بصحبة جارنا،بدى وجهه حزينا كأنه قمراٌ إرتسمت على وجنات وجهه الأبيض دموع سوداء،كان صاحب روح مرحة من النادر أن تكون حاضرة في رجل شارف عمره المائة عام،بدى هادئاً عند زيارتنا له،فجلست أنا وجاري نسامره ونتجاذب معه أطراف الحديث وعندما حان وقت ذهابنا قال لي:خذوني معكم!! لم يفهم جارنا مقصد الشيخ من تلك الكلمة وعندما أرخيتُ أذني قليلاً نحو ذلك الشيخ فقال لي:أريد يا سعود رؤية الشمس والخروج من المنزل!! لم تكن حالته الصحية تسمح له بالخروج كثيراً،هنا قلت له:لا تقلق سأحاول أن آتي بالشمس لك،سأرسمها أو أكتبها لتراها وتتحسسها لكني أخشى أن تكون أشعتها حارة فلا أستطيع الإتيان بها فتبسم ضاحكاً من قولي،فكانت ابتسامته كالشمس في اشراقتها.كان جُل وقته يقضيه في قراءة القرآن فيقطع صفحاته تلاوة وتدبراً وكان يعتذر لشباب هذا اليوم الذي ضاع وقته عن القراءة بشكل عام فيقول:هم مشغولون فتجد فلان مرتبطاٌ مع أهله وآخر في عمله وهكذا،كان ذا نفس وثابة متفائلة رغم تفتق جراح عمره المديد والتي ما تلبث أن يتفتح بعضها حتى يضمد هو بنفسه تلك الجراح بابتسامة رضى وصمود أمل في وجه الحياة القاسية،كان يحثني بشدة على الكتابة فكان هو أول من استسقيت منه أولى جرعات هذا النهر النمير،كان يقول إن الناس يحبون الكلمة الطيبة فمشاعرهم وأحاسيسهم قد تمرض لكنها لا تموت أيها الإبن العزيز،ربما كان يقصد ذلك الزمن الجميل الذي عاش هو فيه،وربما كان يقصد أن لا أنظر لوقتنا الحالي بظلامية ويأس وأن الخير موجود متى ما توثبت النفس الصامدة المتحررة من من عباءة التشاؤم والجهل الذي ضرب أطنباها لكي تمسح سواد ظلام وضياع قد ألقى بظلاله على فرد وأسرة ومجتمع،هكذا كان رسم كلماته لي ولكل من عرفوه،كلمات كبياض سماء مهما لبدتها الغيوم الكالحة بسوادها فهي ما تلبث أن تُرعد لتمطر وابل زخات مطر صافية عذبة،هكذا كان ظاهر تلك الكلمات التي تشُع أملاً وتفاؤلاً.يبكيك مداد التعبير أيها الشيخ العجوز،يبكيك بياض الورق الذي سودته حروف الحزن والفراق،يكبيك صوت الحبر الذي أصبح اليوم حزيناً وسيُمسي حزيناً حتى يواريك الثرى،يبكيك ذلك القلم الذي يتراقص ثم ما يلبث أن يترنح كذئب يعوي في ظلمة ليل دامس حزناً على رحيل كل ذي شيبةً وكبير سن شابت لحيته،ونحلت عظامه ليرسم صوراً من العقل الرشيد والرأي السديد لمن حوله،جزاك الله خيراً أيها الموت عندما تذكرنا آخرتنا التي مهما ركضنا في مطاف هذه الحياة وسعينا في مسعى ذلك الحطام فنحن يوماً من الدهر ماضون وسائرون نحوك،وسامحك الله أيها الموت عندما لا تمنحنا فرصة أخيرة ولو لسويعات لقول كلمة وداع لوشعور ملتاع لمن كان لهم الأثر البالغ في مسيرة معتركنا الحياتي.رحمك الله أيها الشيخ العجوز وغفر لك ورحمنا برحمته الواسعة ووالدينا وجميع المسلمين أحياء وميتيين.......سعود المحمود
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق