الجمعة، 23 مارس 2012

الإدارة الفردية والذاكرة الجمعية

في الغالب تعتمد الإدارة الفردية على مبدأ تضخيم الذات فتنشأ حولها زخمًا من السرديات المتضاربة وربما المتناقضة لتخلق هالة لها شبه قدسية وحصانة تدعمها الصورة، الصوت،الخطاب والقرار لتخلق حالة رمزية تستحضر من أجل تثبيتها في الذاكرة الجمعية للمتلقي المتجسد في شخص الموظف كعامل يردع التشكيكات أو التساؤلات حول شخصية المدير الفردي وسياسته فتتحول عملية التضخيم إلى غطاء تختبئ تحته زلات البشر ونقصهم وضعفهم وسوء تدبيرهم للشأن الإداري العام للمنشأة والشركة.كلما زادت سياسة التسلط والتطفيش والبحث عن الأخطاء عند الموظفين في إطار الإدارة الفردية كلما زادت الأصوات المؤيدة من فئة مستفيدة لذلك المسؤول الإداري والتي قد تخرج لحد المداهنة والنفاق فتكون بعيدة عن الطبيعة البشرية فتتحول لتنظيم المديح والإطراء في شخصه.

الإمبراطوريات العظمى والتي كانت سائدة في وقت مضى من التاريخ، كانت في مجملها إمبراطوريات فردية التصرف آحاديه النظرة، فكانت قائمة على الشكل الفردي وليس النسيج الجماعي، كانت تلك الإمبراطوريات العظيمة في الزاد والعتاد لا تمثل أحلام،تطلعات وطموحات الفئام من الساكنين فيها، بل كانت تعتمد على الأفراد والأشخاص الفرديين الذين لم ينظروا لحال الجماعة في جميع الأحوال.

الإدارة الفردية حينما تصل لسدة أي منشأة تحرص على زيادة أعداد الجماهير وتوظيف الأحباب وضم الأصحاب وتقريب الأقارب وكلهم في النهاية يعتبرون محسوبين على المدير الفردي الذين عينهم لغرض أن يهتفوا بإسمه فيضفون لتلك الإدارة الفردية مظهر القوة الجماعية.أي منشأة يكون فيها الصوت الفردي حاضرًا وصارخًا في جميع حالات وأحواله فإنها بلاشك سوف لن تصل للنتائج المرجوة دومًا من تنمية معنى العمل الجماعي وروح الفريق الواحد والعمل على كسر الجمود والشللية بين طاقم الفريق العملي،فلأجل ذلك ستحتاج كل منشأة أن تنمي تعظيم الذات والشخص في نفس كل موظف ومنسوب لديها ليترتب على ذلك تعزيز الثقة في نفسه وتنمية القدرات الخاصة به مما سينعكس على أداءه الذي سيصب في النهاية لصالح المنشأة العامة ككل....سعود المحمود

الاثنين، 12 مارس 2012

لقـاءٌ عابر ويومٌ ماطر


ذات يوم بدت سماء مدينة الرياض ملبدة بالغيوم ، في ذلك الوقت كان سعيد جالسًا في المقهى المقارب لبيته ، لقد أصابت برودة الطقس فنجان قهوته فأضحت باردة. فجأة سقط فنجان القهوة أرضًا فتناثرت قطع زجاجه وإنسكب مزيج القهوة على طاولة الجلوس!! باغت صوت الرعد مسامع سعيد فتلعثمت نفسه على أثر ذلك الصوت فإنسل من بين يديه فنجان القهوة فسقط منه. جاء نادل المقهى مُسرعًا نحو الطاولة يجر معه خطواته المتسابقة بعد سماع ضجيج الإنكسار الذي سمعه ، نظر النادل لمشهد أجزاء الفنجان المكسور والقهوة المسكوبة ، هنا نظر النادل لسعيد الذي إرتسمت عليه علامات الإستحياء والخجل لقاء ما جرى ، فأخذ سعيد يوجه كلامه للنادل فقال: أعتذر عما حصل ، سوف أقوم بدفع قيمة الفنجان أيها النادل.

فرد النادل مجيبًا بقوله: لا مشكلة يا صديقي سعيد ، لا تأبه بشأن ما حصل ، فقط تفاجأت من صوت الإنكسار فقدمت ، لا شيء يستحق الذكر ، سأقوم بجلب فنجان قهوة جديد لك عوضًا عن الذي سكب.

رد سعيد بقوله: أشكرك على لطفك يا صديقي لكن لا داعي لذلك ، سوف أمضي الآن للبيت ، يبدو أن السماء ستمطر بعد قليل ، أراك لاحقًا يا صديقي.





خرج سعيد حاملًا معه دفتره وقلمه متجهًا نحو سيارته ، فتح باب سيارته وبدأ بتشغيلها ، لقد كانت زجاج السيارة باردة فإنتظر سعيد لسويعات قليلة حتى يستعيد المحرك شيئًا من حرارته. مضى سعيد في طريقه نحو البيت فتوقف قليلًا عند الإشارة ، كانت هناك سيارة تقف بجانبه يجلس فيها طفلٌ صغير فأخذ بالتبسم في وجه سعيد، كان يمرر أنامله على زجاج النافذة يرسم عليها رسومات وزخارف ، هنا أضاءت الإشارة اللون الأخضر

فواصل سعيد طريقه نحو المنزل.





إشتد هطول المطر فأخذ يتساقط بغزارة ، بدأ الضباب يتشكل على زجاج السيارة وإنعدمت الرؤية حينها فلم يقدر سعيد على المواصلة فسلك شارعًا عند مدخل الحي الذي يقطن فيه فركن سيارته وإنتظر ريثما تخف وطأة هطول المطر. في أثناء لحظات الإنتظار أخذ سعيد يمسح بقع الضباب الجاثمة على صدر زجاج السيارة ، في ذلك الحين توقف هطول المطر ولفت نظر سعيد وجود سيارة متعطلة واقفة  على مقربة منه فمضى نحوها ليرى ما هو الأمر.لقد كانت عجلة السيارة عالقة في حفرة فكانت منشطرة كليًا و كان السائق يحاول عبثًا إصلاحها.إقترب سعيد من السائق وأخذ يسأله عما إذا كان لديه عجلة بديلة وفي أثناء حديث سعيد مع السائق فُتحت نافذة السيارة وأخذ يصدر منه صوت منادي يقول: هل هذا أنت يا سعيد!!

إلتفت سعيد للوراء وكانت صاحب الصوت إمرأة ، هذه أنتي يا تهاني!! إنها لصدفة جميلة.

فأخذت تهاني تقول: بالفعل هي كذلك ، لكن ما الذي أتى بك إلى هنا؟

سعيد: لقد كنت عائدًا للبيت فتوقفت قليلًا عندما ريثما يخف هطول المطر ، لكن الآن ماذا بشأن السيارة ينبغي أن نصلحها.

تهاني: لقد إتصلت بالبيت لأخبر أمي أن السيارة قد تعطلت لكنها لم تجبني وسأضطر للإنتظار قليلًا.

سعيد: حسنًا يمكنني إيصالكم للبيت ، فلترافقيني أنت والسائق.

تهاني: اممم أخشى أن ترانا أمي وحينها ستحدث مشكلة وتتصل بأمك ويحصل ما لا نريد حدوثه يا سعيد.

سعيد: لا تقلقي سأتبدر الأمر ، ولن تلاحظ أني أرجعتكم للبيت.



 

أوصل سعيد السائق وتهاني للمنزل ، عندما همت بالنزول أخذت تهاني تقول: لقد كانت صدفة طيبة أن إلتقينا.

سعيد: هي كذلك بالفعل يا تهاني ، والأجمل من ذلك  أنها جاءت بشكل عفوي دون ميعاد يُذكر.

تهاني: شكرًا جزيلًا لك يا سعيد.

سعيد: لا داعي للشكر يا إبنت العم العزيزة.

عاد سعيد في طريقه متجهًا نحو البيت وفجأة رن صوت هاتفه النقال!! لقد كان صوت رسالة واردة لهاتفه ، لقد كانت الرسالة قادمة من تهاني فكانت مكتوبًا فيها: لقد نسيت أن أرجع لك معطفك الذي أعطيتني إياه ، سأعيده لك لاحقًا مع السائق أيها العزيز.

فرد سعيد برسالة جوابية لها: يمكنكي الإحتفاظ به أيتها النبيلة ، لكن هل بإمكاني أن أحتفظ بقارورة العطر التي نسيتها في سيارتي؟

سعود المحمود


الكعكة وحبة التوت والطفل الصغير



كان هناك بيت يسكن فيه زوجين،ثلاثة أبناء،خادمة،سائق وبستاني.ذات صباح استيقظ الطفل الصغير فوجد رسالة من والديه كُتب فيها: إبننا العزيز، لقد ذهبنا لقضاء بعض الأشغال وأعددنا لك ولإخوتك كعكة لذيذة، لقد قمنا برسم ثلاثة خطوط على الكعكة لكم تمثل حصة كل واحدٍ بالتساوي، فلا يلزم الأمر أن تتشاجروا أثناء غيابنا، أنت طفلٌ مهذب كما عهدناك وتسمع الكلام ولن تخلق الفوضى،،،مع محبتنا لك/والداك.

مزق الطفل الورقة بعد قرائتها وألقى بها في سلة المهملات ومضى ذاهبًا نحو صالة المنزل، فوجد هناك أخويه جالسين على طاولة الطعام والكعكة أمامهم.لاحظ الطفل أن خطوط القسمة قد اختلفت عما ذكره له أبويه في الرسالة، فكان هناك ستة خطوط مرسومة على سطح الكعكة، هنا سأل الطفل أخويه قائلًا لهما: أبي وأمي حددا خطوط القسمة بثلاثة خطوط فلماذا تغيرت لستة؟
فأجاب الأخوين: كيف ذلك، وما هو الدليل على صحة كلامك؟
رد الطفل قائلًا: لقد ذكرا لي ذلك في رسالة!
فعقب الأخوين: إذن أحضر لنا تلك الرسالة إن كنت صادقًا فيما تقول؟
هنا تذكر الطفل أنه مزق الرسالة! وسيتحتم عليه الرجوع لسلة المهملات لتجميع أجزائها ليصدُق أمام أخويه.ذهب الطفل على الفور وقام بتجميع أجزاء الرسالة وألصقها بعضها ببعض.

جاء الطفل بالرسالة لكي يطلع عليها أخويه ويصدقان كلامه، تمعن الأخوين في الرسالة وقال لأخيهم: ماذا يثبت لنا أن الرسالة صحيحة، هي ممزقة وهذا يفتح مجال لنا للشك في صحتها، فما دامت أجزائها مُجمعة فهذا لا يضفي عليها صدقية تذكر، إذن دليلك غير كافي لنصدقك.
رد الطفل قائلًا: حسنًا، لنفترض أني كاذب فما هي حجتكما في كون خطوط الكعكة مقسمة لستة أجزاء؟
أجاب الأخوين: الأمر سهلٌ جدًا، أبي وأمي لم يخبرانا بأمر التقسيم، لكن ظاهر الأمر يعني أنا الحصص مقسمة كالتالي: قطعة لك،قطعتين لنا،واحدة للخادمة،أخرى للبستاني والأخيرة للسائق.ستُ قطع لستة أشخاص!
رد الطفل معقبًا: وماذا يثبت لي صحة وصدق كلامكما؟
فأجاب الأخوين: حسنًا، اذهب للخادمة ثم للبستاني ثم للسائق واسألهم فربما يكون كلامك صحيحًا فنوفر حصص الكعكة وبالتالي يزداد نصيبنا منها.

ذهب الطفل نحو المطبخ ليسأل الخادمة عما لو كان لها نصيب من الكعكة أم لا! لكنه لم يجدها، بعد ذلك توجه للسائق وكذلك لم يجده ونفس الأمر تكرر مع الطفل بالنسبة للبستاني حيث لم يجده.هنا جلس الطفل يتسائل في نفسه قائلًا: رسالة أبي وأمي واضحةٌ بالنسبة لي ولا لبس فيها، خطوط التقسيم ثلاثة فلم أحاول عبثًا أن أقنع نفسي أنها ستة!! فعاد الطفل سريعًا لصالة الطعام وعند عودته تفاجأ بإختفاء الكعكة ولم يجد سوى حبة توت موجودة على الصحن وبجانبها رسالة كُتب فيها: أخانا العزيز، لقد ذهبنا لنسأل الخادمة،البستاني والسائق عما إذا كان لهم نصيبٌ من الكعكة أم لا، لا تمزق هذه الرسالة واحفظها لكي تكون دليلًا على أننا كنا نحمي الكعكة في حال إختفائها أو سرقتها أثناء غيابنا.......سعود المحمود

٢٠عام و٧٢٠٠دلة قهوة و٧٢٠٠آنية تمر



في أحد جوامع مدينة الرياض،وبعد الفراغ من صلاة مغرب كل يوم،ينفض المصلون بعد أدائهم للصلاة وانتهائهم من ذكر الله عز وجل والاستغفار والتسبيح له،فيتجه كل شخص إما لعمله أو أهله أو قضاء سائر شؤون الحياة.يا فلان تعال..يافلان اقترب..يا فلان أقبل..كان ذلك نداء العم عبدالله المبارك يدعو فيه المصلين لمشاركته في شرب القهوة وأكل الرطب.فقد دأب ذلك الشيخ العجوز الطيب بعد أن ينتهي صلاة المغرب من كل يوم على جلب القهوة والتمر والجلوس في المسجد ودعوة صحبه وجيرانه على مدى عشرين سنة لم ينقطع خلاله عن تلك العادة والتي ضرب من خلالها أجمل دروس الكرم وأروع ضروب السخاء وأبلغ صنوف العطاء.كان يأتي أصحاب الشيخ العجوز ورفقائه ليشاركوه مذاق الجلسة ونكهة الجمعة بحضور فتى يدعى سعيد،فكان يباشر مهام صب القهوة ومناولة التمر للحاضرين.

في أحد المرات جاء رجل من الجنسية العربية،فكان عابر سبيل فأدى صلاة مغرب ذلك اليوم في ذلك المسجد،هنا جلس العم عبدالله ينادي الرجل للحضور لجلسته،بعد أن هم الرجل بالقعود طلب العم عبدالله من سعيد تقريب آنية التمر للرجل وصب فنجان قهوة له،ففعل سعيد ما أمره العمل عبدالله بالقيام به.انتهى الرجل من تناول التمر وشرب القهوة ثم بدأ بالاستئذان من العم عبدالله لكي ينصرف لشأنه وذلك بعد أن وجه له شكره على جميل الضيافة ونبيل الحفاوة التي لقيها منه.هنا تحدث العم عبدالله قائلًا لرجل:إن كنت تُحبني فخذ فنجان قهوة أخير فقط..أخير فقط و حبة تمر أخيرة فقط..أخيرة فقط!!
فما كان من الرجل إلا أن أحس بالحرج والحياء من ذلك الشيخ العجوز الكريم،فأجابه بالقبول والموافقة،فصب سعيد للرجل فنجان القهوة وقدم له حبة التمر.

٢٠عامًا و٧٢٠٠دلة و٧٢٠٠آنية تمر موزعة على أيام عشرين سنة كانت تُمثل وتجسد كرم ذلك الشيخ العجوز،
فكم هي الحسنات التي سوف تجري له؟
وكم هي الثوابات التي ستتدفق له؟
وكم هم الأشخاص الذين سيقتدون بفعله؟
وكم هي الدعوات التي سترفع لله تعالى لأجله؟
فعلٌ بسيط مستمر سيجازي به الله عز وجل ما لا يعجز المرء عن مجرد تخيله.....سعود المحمود

قدح شاي واعتراف عابر




في ظهيرة أحد الأيام،وتحت ظلال أوراق العمل وعراك المهام والمعاملات، ذهبت لمطبخ عامل الشركة لجلب قدحٍ من الشاي.كان العامل جالسًا مع رفقائه الآخرين من مختلف الجنسيات الآسيوية،كانوا على وشك البدء لتناول وجبة الغداء الخاصة بهم.أثناء انشغالهم بالطعام والذي كان عبارة عن مأكولات مُعدة حسب طريقة كل بلد ينتمي لها ذلك العامل ورفقائه،هممت بأخذ الكوب واعداد الشاي بشكل سريع،هنا نظر لي أحدهم ودعاني للمشاركة في تناول طعامهم،فلبيت دعوته وتناولت شيئًا من طعامهم ثم شكرته بدوري على دعوته.جلس العامل ينظر لي لسويعات بعد توقفه لبرهة عن الأكل،فقال لي: منذ وقت طويل لم أرى شخصًا يلبي دعوتنا لتناول الأكل فهذا الأمر يجلب لنا السعادة الداخلية في نفوسنا.لم أجد أنسب من ابتسامة عابرة في وقت تبعثرت الكلمات من على لساني لأجيبه اجابة مُعبرة.

كثيرةٌ هي تلك اليقينيات التي نكذب بها على أنفسنا حينما ندعي أننا مسلمون حق الاسلام ،وأننا وصلنا لأعلى درجات المعرفة والادراك بديننا الاسلامي الشامل،فلم نطبق أخلاق الاسلام والتعامل المحمدي لنبينا صلى الله عليه وسلم،فننزع النظرة الدونية والشعور الفوقي تجاه مسلمين هم من غير جلدتنا العربية،فيكون هناك تناقض في كثير من التعامل معهم،لفقرهم،بساطتهم،طبيعة عملهم وحُجج من قبلنا لو أمعنا قليلًا لوجدنا فيها غاية التناقض عن ما أوصانا به نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بالتحلي به.....سعود المحمود

الحروف الساقطة والورود الناطقة



ذات صباح حيث الهواء كان يشكو لحاله برودة الجو لينطق به عبر صوت هبوبه الهادئ في تلك اللحظة، كان سعيد يمضي بسيارته يرافقه كوب قهوته السوداء والتي كان يطفو على وجهها بياض السكر الذابل الهائم على نفسه بين مزيجها. كان هناك متسع من الوقت قبل ذهابه للعمل لبدء نشاط يوم جديد. توقف حلق السيارة عن الأنين ليصمت عن الكلام لسويعات قليلة فترجل سعيد وأخذ يمشي لحديقة كانت قريبة من الجوار، نزل حاملاً كوب قهوته التي أوشكت على البرود، لقد ذاب السكر في أحشائها لكنه ما يزال دون تحريك،
حمل معه دفتر كتابة قديماً وأثناء مشيه نحو كرسي كان جامداً وسط تلك الحديقة ليجلس عليه، رأى سعيد ورقات شجر كانت تمشي على الأرض!! كانت تدفعها تغاريد ضحكات طفل كانت صادرة من الطرف الآخر من الحديقة وفجأة بينما كان يتتبع مصدر ذلك الصوت سقطت من دفتره دون أن يشعر حروف كلام وأحاديث قديمة فتهاوت للأسفل فدوى رنين سقوطها مسامع أذن الماضي الذي تشظت أيامه وذكرياته!!

كانت العائلتان ذات يوم ذاهبتين لقضاء نزهة مع أطفالهما في الحديقة، كانت تهاني وسعيد يتسابقان الخُطا للعب على أراجيح منصوبة وسط باحة تكسوها الرمال والحجارة، فسبقت تهاني سعيد فركبت على الأرجوحة وأخذت تقول له: سبقتك بالركوب يا سعيد، إذن ينبغي عليك الانتظار وأن تدفعني لأني لن أستطيع دفع نفسي.
فأجابها سعيد : لا ادفعي بنفسك ريثما أعود إليك يا تهاني.
فردت تهاني قائلة: إلى أين أنت ذاهب؟
عاد سعيد لتهاني فقال لها: أغمضي عينيك يا تهاني؟
فقالت له: لا تخفني يا سعيد فأنا أخاف من إغماضة العين!
سعيد: لا تخافي، فقط أغمضي عينيك.
تهاني: حسناً ها أنا قد أغضمت عينيّ.
سعيد: الآن افتحي عينيك يا تهاني.
تهاني: أوووه إنها جميلة!! هل هذه لي يا سعيد؟
سعيد: نعم هذه الوردة لك، لقد قطفتها من أجلك.
تهاني: شكراً لك، تعال لقد سمعت أننا حينما نكبر سوف يكون لدينا الكثير من باقات الورود.
سعيد: طبعاً فدوماً ما أرى العروسين حينما يتزوجان يُهدى إليهم أكاليل من الورود.
فجأة تفجرت ورقات الوردة فزعاً من صوت صراخ قادم كان ضجيجه يقول: تهاني تهاني تعالي هيا سوف نذهب للبيت تعالي هيا!!
أمي لماذا سوف نعود فنحن للتو جئنا؟
فقالت الأم لتهاني: لن نأتي مرة ثانية هل تسمعين الكلام، ما هذه الوردة القبيحة التي في يدك، ألقي بها أرضاً، فأمسكت الأم بيد تهاني وأخذت تسير بها عائدتين لبيتهم والتي بدورها رمت لسعيد بدموع انطبعت على قلب ورقات تلك الوردة الملقاة على ناصية رصيف الحديقة.

أرخى سعيد ظهره وألقى بأنامل يده ليجمع حروف دفتره التي سقطت على الأرض أثناء مشيه فقام بنفض الغبار عنها وأعادها لأدراج سطورها بين الورق. تابع سعيد سيره متتبعاً لمصدر صوت ذلك الطفل الذي كانت ضحكاته تجوب في مسامعه فاقترب أكثر وألقى بنظرة متخفية خلف بُرقع عينيه صوب الطفل الضاحك، رأى سعيد طفلاً كان يعتلي أرجوحة وامرأة من خلفه تقوم بدفعه وكانت تقول له: هل اكتفيت يا سعيد من اللعب الآن لقد أوشك باص المدرسة على القدوم؟
فكان الطفل يجيبها: لا يا أمي ما زلت أريد اللعب؟
فقالت له: حسناً لديك دقائق معدودة ريثما يأتي السائق لنذهب للمدرسة.
هنا توجه سعيد صوب تلك المرأة وطفلها وقال: كيف حالك يا تهاني؟
فدُهشت تهاني من هول المصادفة التي لم تتوقعها فأخذت تقول: سعيد كيف جئت إلى هنا؟
فرد سعيد: لقد كنت مارّاً بالجوار فغالباً ما آتي هنا للمشي على أطلال ذكريات سالفة، لكن ما الذي أتى بك أنت؟ ما أعلمه أنك تسكنين في حي آخر فهل انتقلت للعيش بجوار بيت أسرتك؟
تهاني: لا بل عدت حديثاً للمكوث في بيت أهلي، ربما لم تعلم أني انفصلت عن زوجي السابق.
سعيد: لا لم أعلم بحقيقة هذا الأمر يا تهاني. هذا هو إذاً ابنك سعيد أليس كذلك؟
تهاني: نعم هو ابني وأسميته سعيد.
سعيد: هل تذكرين حينما كنا نأتي في صغرنا لهذه الحديقة؟
تهاني: وكيف لي أن أنسى ذكريات جميلة لا تُنسى، كان أهلي حينها يقولون إني سأكون عروسك، لكن ربما كان في الأمر خيرٌ لي ولك، فأمي ما زالت تقول: زواج الأقارب عقارب.
سعيد: ربما كان صحيحاً ما قالته أمك، لكننا أضحينا كعقارب الساعة فهي تماماً تلاحق بعضها بعضاً فتلتقي ثم تنفصل لتلاحق بعضها بعضاً مجدداً.
تهاني: حديث الذكريات لا ينتهي يا سعيد.
سعيد: بالفعل هو كذلك لا ينتهي حينما تستجلبه الذاكرة.
ذهب سعيد لسيارته مسرعاً وعاد حاملاً معه وردة ذابلة فأعطاها للطفل الذي بدا مسروراً بها، فأخذت تهاني تقول له: هل هذه نفس الوردة التي قذفت بها أمي وألقتها أرضاً.
فأجاب سعيد بقوله: ههه بالطبع ليست هي فتلك قد ذهبت أدراج الرياح لكن صورتها بقيت متشبثة في مخيلتك ومخيلتي.
هنا بدأ قلب سيارة السائق بالنبض المتعالي فكان ينادي الطفل ليذهب به للمدرسة، فقالت تهاني لسعيد: سوف أستأذن منك يا سعيد بالانصراف الآن سأرافق سعيد للمدرسة.
فرد سعيد بقوله: لنبقَ على تواصل يا تهاني.
تهاني: بالطبع سنبقى على تواصل على ضفاف نهر ذكريات الماضي وشاطئ الحاضر وأما المستقبل فلا ندري هل سيكون فيه التقاء......سعود المحمود


شجار عند خرير المياه



كان هناك شاب يسير خارجاً من قاعة الفندق بعد انتهاء اجتماع عمل كان حاضراً له. أثناء سيره كان صوت خرير مياه النافورة يحمل في ثناياه صدى مشاجرة بريئة! تسابق الشاب خطواته فوجد طفلاً وأخته الصغيرة يقفان عند بوابة إحدى القاعات فكان الطفل يُعنف أخته وكان ممسكًا بيدها وهي تحاول نزعها! فتوقف الشاب عندهما فأخذ يلقي التحية عليهما وأخذ يقول للطفل: لماذا هذا العراك بينكما؟
فأجاب الطفل قائلاً: لقد دخل أبي لهذه القاعة وطلب منا أن ننتظر قليلاً ونبقى هادئين ريثما يخرج، لكن أختي تصدر إزعاجاً فهي تريد أن تذهب لتلعب في الجوار ولقد نهيتها لكنها لا تطيعني.
فرد الشاب: أختك أصغر منك وأنت الكبير أليس كذلك؟
فأجاب الطفل: بلى.
فقال الشاب:هي لن تطيعك إذا لم تتحدث إليها بلغة رقيقة، افهم مشاعرها لتفهمك فأنت أخوها فينبغي أن تحتويها فتعطف عليها.
هنا أخرج الشاب حلوى كانت في جعبته فأعطاها للطفلين فهم الطفل بفتح قراطيس الحلوى فأعطاها لأخته وهي بدورها أعطته الحلوى الخاصة بها فبدت البسمة على محياهما فأخذا يضحكان على بقع الشوكولاته التي بقيت متشبثة على شفاههما والتي بدورها كانت تبتسم مع ابتسامة وحركة أفواههما، هنا التفت الطفلان يمنة ويسرة فلم يجدا الشاب فلم يسمعا غير صدى خطوات قدميه التي اختفت في شغاف صوت خرير مياه النافورة......سعود المحمود

نحن المعاقون ولست أنت




ذات يوم وفي أثناء عملي في معترك المجال المصرفي زارنا عميل في البنك،كان قد قصد البنك لغرض الحصول على قرض شخصي له. تقدم عندي وطلبت منه الجلوس، لحظات وأخرجت الأوراق الخاصة لغرض فتح حساب مصرفي له، فطلبت منه أوراقه وبياناته الشخصية كي أكتبها بالنيابة عنه، نظراً لأني رأيت أن ليس لديه يدان، فلم أدقق كثيراً هل كان قد وُلد من دون يدين أم أنهما كانتا مبتورتين لسبب ما. ما أن انتهيت من تعبئة الأوراق حتى حان موعد التوقيع على تلك النماذج المصرفية، هنا توقفت قليلاً لبرهة حيث إن هناك شروطاً معينة للعملاء من ذوي الاحتياجات الخاصة عندما يتطلب الأمر التوقيع على نماذج مصرفية كالأعمى والأمي وهكذا. استأذنت من الشخص قليلاً وذهبت لأحد الزملاء كي أستذكر الشروط اللازمة لمن يُطلب منهم التوقيع في مثل هذه الحالة، وما أن عدت نحو ذلك العميل حتى كانت المفاجأة التي لم تخطر في عقلي المحدود ورأيي المردود!! فرأيت أن ذلك الشاب قد وقع بالفعل على تلك الأوراق توقيعاً متطابقاً كليّاً لا يختلف أبداً حتى قيد أنملة، كانت الصفعة قوية بالنسبة لي عندما نظر لي نظرة رأيت من خلال تعمقي فيها أنها نظرة امتعاض فكيف لي أن أصدرت حكمي عليه بعدم قدرته على فعل شيء لم أسأله أنا شخصيّاً ما إذا كان هو قادراً على فعله أم لا؟ فركنت إلى فلسفتي وحكمي واجتهادي السقيم. جلست بكل هدوء بعد ذلك الموقف الصدامي وأخذت أسأله بتهكم وسخرية عن خلفيته بسوق الأسهم ومعرفته به ولم أستفد من السقطة الأولى حتى سقطت في وحل السقطة الثانية عندما بادرني بسيل معلوماتي جارف يقمع أي شيء يصادفه في طريقه فأخذ يسرد لي معلوماته بسوق الأسهم وخبرته بحركات البيع والشراء و و و.... فلم يذهب بعدُ أثر تلك الصفعة حتى بادرني بصفعته الثانية المدوية حينما حكمت مجدداً على جهله في جانب سابق وجانب لاحق من خلال مظهره الخارجي فخُيل لنفسي تخيُّلاً غير مبرر أن مجرد فقدانه ليديه أن ذلك يبرر لي أنه شخص جاهل عاجز فهو غير قادر على فعل شيء، مهلاً يا لك من أحمق أيها الكاتب!! لماذا أنا أحمق يا قلمي؟ أنت أحمق لأنك لم تمعن القراءة جيداً في بيانات الوظيفة الخاصة بذلك الشاب حيث إنه كان يعمل -ناسخ آلة كاتبة- فلو أمعنت في ذلك المسمى الوظيفي الخاص به لعرفت حقيقة جهلك في الحكم المبكر عليه!! نعم كنت أحمق يا صديقي. انتهى ذلك اللقاء السريع بيني وبين ذلك الشاب ومددت قلبي قبل يدي لمصافحته على تلك الدروس المجانية التي أعطاني إياها واعتذرت له عما بدر مني من جهل في حقه فبادرني بابتسامة وكلمات رائعة ووعدٍ باللقاء فأضحينا بعدها أصدقاء، في أثناء مغادرته للمكان تقدمت نحو المدخل الخاص بالبنك وجلست أتأمل منظر خروجه وتوجهه نحو سيارته، هنا أخرجت عدسة آلة التصوير الخاصة بي فالتقطت عيناي تلك الصور أثناء خروجه، فالتقطت صورة فتحه لباب سيارته وصورة تشغيله لسيارته وصورة وضعه للأوراق التي كانت بحوزته وآخر صورة هي قيادته لسيارته وهو لا يملك يدين لفعل تلك الأمور، كل تلك الصور سوف تلزم أي إنسان بلا شك في مشوار الحياة. انتهى وقت العمل في ذلك اليوم وتم إسدال الستار الخارجي للبنك في ذلك اليوم إيذاناً بنهاية يوم عمل، بدا الوقت جميلاً حينما غابت الشمس ولم يبقَ سوى بقية أطلال من تلك الظلال ، جاءني حارس الأمن كي يخبرني أن وقت الدوام انتهى فقلت له حسناً سأبقى لقليل من الوقت، توجهت صوب مكتبي وأخرجت ورقة كانت موجودة لدي واستللت قلمي فالجو كان مثيراً بل وغزيراً ومُلهماً للكتابة عن أحداث ذلك اليوم الحافل الذي عايشته حيث الهدوء الذي سكن جنبات المكان والصمت الذي خيم على أرجائه، أنهيت كتابة تلك الأحداث في ذلك اليوم وعندما هممت بالخروج من الباب وجدت تلك الورقة المثنية على طرف مكتبي فشدت انتباهي فلم ألاحظ وجودها في أثناء ترتيبي لمكتبي قبل الخروج، ذهبت ففتحتها ووجدت مكتوباً فيها قول الله عز وجل:-- فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور-- فكانت تلك الورقة بمثابة الرسالة التي وجهها لي ذلك الشاب بأسلوب بسيط كان يريد أن يفهمني أن المعاقين حقّاً هم أولئك الأسوياء الذين ماتت عقولهم وقلوبهم وأحاسيسهم تجاه ما يدور حولهم حتى وإن كانوا يملكون بقية مقومات الجسد البشري، شكراً لك يا صديقي فعلاً نحن المعاقون ولست أنت.....سعود المحمود


شرخ على جدار إخوة



ذات يوم اتصل الأخ الكبير بإخوته، استغرب كل فردٍ منهم نبضات ذلك الاتصال، حيث إنه كان الأول من نوعه على صعيد تواصل الإخوة فقال لهم أخوهم: سوف يكون اجتماعنا في بيت الوالدة دون أن يكشف عن أسباب أخرى لهم فشدد عليهم بالحرص على الحضور باكراً. مساء ذلك اليوم اجتمع الإخوة في بيت أبيهم بحضور والدتهم، كان ذلك الاجتماع هو الأول منذ سنين مضت على وفاة أبيهم حيث كانوا يجتمعون في الماضي عندما يحين موعد الغداء وفي أوقات العيد والمناسبات دون حضور حقيقي لمشاعر اهتمام وأحاسيس وئام متبادل تم تغييبها قسريّاً بفعل شخص آخر. بدأ الاجتماع وتحدث كبير الإخوة أمام إخوته لأول مرة، اعترف خلال ذلك اللقاء أن ثمة تباعداً وهوة شاسعة بين الجميع ارتسمت ملامحها خلال الاجتماع البارد في أحاسيسه والساخن في اعترافاته، أخذ الأخ الكبير يعترف بتقصيره ويسوق الاعتذارات على أخطاء لم يكن له يد ومرمى حجر في كثيرٍ منها فاعتذر عن أنه كان يتصل على إخوته دون أن يستشعر كلمة-كيف حالك أخي.. كيف حالكِ أختي- و تساءل متى كانت آخر مرة دعوتكم فيها لزيارة منزلي و و و الكثير من المكاشفات والاستجلابات التي ساقها لهم من بطن الذاكرة والتي جاءت متأخرة بعد وفاة قطار مشاعرها الذي حاد عن سكة حبال أولئك الإخوة، في الطرف الآخر من ذلك الاجتماع كان يجلس شاب كبير بقلب طفل صغير-هكذا كان يرى نفسه-كان يشاهد باهتمام بالغ لعروض وأحداث ذلك المسرح العائلي، لفت انتباه ذلك الولد ورقة كانت منزوية على استحياء تحت طرف الأريكة فتناولها وأخذ يحدق بالورقة بتركيز شديد فجلس يخاطبها قائلاً: أنت ورقة بيضاء ويجب أن تبقي كذلك حتى يتضح على جسدك الأبيض فأي صورة جميلة ترسم عليكِ دون ضباب غيوم أو كلمات تسطر على صدرك لتمد الآخرين بحليب صافٍ نقي خالٍ من السموم، فجأة ابتسمت الورقة في وجه ذلك الطفل، ربما رأى ذلك الطفل صورة جميلة عن الاجتماع الذي كان فيه أراد هو رسمها يوماً لكنه لم يكن يملك ريشة رسم وقتها، أو كلمات معبرة في أحاديث ذلك الاجتماع لكنه كذلك لم يكن يملك قلماً وقتها أيضاً أو حبراً صادقاً، و على حين غرة سمع الولد الصغير صوتاً مفزعاً ومخيفاً!! لقد كان صوت ذلك الابن المدلل الذي غيّب كل أصوات فكرت في الحديث فتكلم الابن المدلل مخاطباً أخاه الأكبر: ماذا لديك أيها الأخ من شيءٍ آخر تقوله غير الذي ذكرته؟ فعقب الأخ الكبير على سؤال الابن المدلل قائلاً: إذا كان لدى أي شخص منكم كلام يريد قوله فلا يتردد فهذا اجتماع مصارحة، هنا لم ينبس أحدٌ من الإخوة ببنت شفة ولم يسمعوا سوى رنين مزعج لصوت ذلك الابن المدلل الذي قال مختتماً مسرح ذلك الاجتماع: أهم شيءٍ أن تتوقفوا عن الحساسية المفرطة من قبلكم والمبالغ فيها لكي نهنأ في حياتنا!! في الطرف الآخر جلس الولد الصغير يتأمل ملامح أمه الحاضرة الغائبة عن أحداث ذلك الاجتماع فأخذ الولد يتأمل صدى تنهيدات صوتها الذي ارتسم على قسمات وجهها فأخذ يحلل ملامح صمتها الغارق في بحر تجاعيد خديها الناعمين وراحة يديها الدافئتين فكأن لسان عقل و حال تلك الأم يقول: قد أكون مخطئة أنا وزوجي حينما أفرطنا في تدليل ذلك الولد فمنحناه زمام التحكم في كل شيء فتصدر هو مقود القيادة بالنيابة عنا دون أن ندري، هنا مضى الابن المدلل في خطوات سيره نحو خشبة المسرح ليسدل عليه خيوط الستار ويقرأ عليه كلمات الختام وذهب عائداً متجهاً نحو زوجته وبيته مخلفاً وراءه غبار وتراب خطواته فذهب الولد الصغير مسرعاً ليمسك بالمكنسة ليكنس آثارها لكي لا يبقى لها أثر لأن ذلك الطفل قرر أن ينتشل نفوس إخوته من بحار الجهل الحسي والاختطاف العقلي التي غرقوا فيها في ظل تسلط أخيهم ليعيد رحلة بناء وتصحيح لهم بعد هدم ركام بقايا تاريخ ذلك الابن المدلل وليطمس تلك الصورة الذهنية التي رسمها الشعور الاعتقادي المخطئ من الإخوة والذي أصله وغذاه ذلك الأخ لحياتهم وشخصياتهم المغيبة.


أمينة وشكوى ضجت لها مدينة



تلك الحديقة القريبة من منزلنا، أقصدها بشكل شبه يومي أذهب إلى تلك الحديقة مصطحباً معي ابنة أختي الصغيرة لكي تمارس هوايتها المفضلة في التأرجح على تلك الأراجيح الموجودة في جنبات تلك الحديقة، تسألني دوماً لماذا لا تتأرجح معي ياخالي العزيز؟ فأجيبها قائلاً لها: تأرجحي وامتلئي سعادة يا صغيرتي الحلوة فأنا منذ كنت صغيراً في عمرك كنت أحب هذه اللعبة لكن عندما كبرت تركتها وتحولت إلى تلك الأراجيح التي نصادفها في حياتنا اليومية والعملية وكثير من الجوانب الأخرى، فهي تغنينا عن أي أرجوحة أخرى. كانت تلك الحديقة القريبة من منزلنا مكاناً جميلاً للعب فيه، مسطحات خضراء أخاذة، أشجار وارفة الظلال، أشياء تستجلب في نفس الكاتب مشاعر التعبير المتفجرة والمتشظية في بيانها وسردها الأدبي الخالص. كنت أذهب لتلك الحديقة فأجتمع مع الرفقاء والأصحاب، تارة نتجاذب أطراف الحديث في أي شأن، وتارة نلعب الورق، وتارة نمارس الإسقاطات على بعضنا بعضاً والطُّرف على كل منا لكن القلوب تبقى صافية كصفاء الماء فالمقصد دوماً هو البسمة التي تبقى مرتسمة قبل وبعد كل لقاء. كان في تلك الحديقة امرأة تضع بساطها اليومي في جنبات تلك الحديقة، تبيع ما لديها على المرتادين والزائرين، كان لدى تلك المرأة خادمة وكانت تدعى-أمينة- امرأة من دولة إندونيسيا قرعت الأجراس باب عمرها الذي وصل لمنتصف الأربعينيات. كنت دوماً عندما آتي لشراء شيء أشربه من تلك البائعة تبدأ أمينة الحديث معي، ربما لأني دوماً لا أضع حواجز أمام المحيطين بي فكان ذلك عنصراً مساعداً أن تتحدث بأريحية مطلقة معي في كل مرة أذهب لشراء شيء من تلك البضاعة المتجولة، في كل مرة تبدأ حديثها المقتضب معي حول أبنائها في إندونيسيا حيث إن لها ابنة بلغت الخامسة عشرة من عمرها ولم ترها خلال ثلاث سنوات مضت!! يا إلهي مدة ليست بالسهلة إطلاقاً، يا لحالكم البائس يا معشر الخدم والسائقين فلولا لقمة العيش الصعبة أكاد أجزم أنكم لم تتركوا الديار والأهل كي تأتوا لمصير متعب بالنسبة لكم، أتيت في تلك المرة وما أن فرغت من طلب قليل من الشاي حتى بدأت أمينة بالحديث والتشكي فلم أملك سوى أن أرخيت سمعي وأذني قليلاً لحديثها فكانت تقول إنها ستذهب قريباً لإندونيسيا لزيارة ابنتها وإنها سوف تقضي ما يقارب أسبوعين بعد غياب ثلاث سنوات وإنها تأخرت جدّاً عن موعد زيارة أهلها بسبب أعمال البيت عند المرأة التي تعمل لديها ففضلت تأخير زيارتها كي تساعدها في أمورها الخاصة والتي لم تستدعِ تأخير زيارة تلك الخادمة لبلدها حسب إفادة أمينة في سياق كلامها لي. كان ذلك الحوار هو الدائم كلما جئت كي أبتاع منها شيئاً فما تلبث أن تتحدث معي ذلك الحوار الحزائني الذي يعبر عن حالتها النفسية، فلم أكن أمتلك سوى المسايرة في الحديث والتفاعل مع شكواها، وما أن انتهت من حديثها معي حتى قالت لي بلغتها العربية المتكسرة -أوووه مستر شاهي بورد- وكانت تعني أن ذلك الشاي الذي اشتريته كان قد برد في أثناء حديثها معي، فقلت لها لا مشكلة إذا كان البرود سيقتصر على ذلك الشاي فلا يمتد ذلك البرود لمشاعر وأحاسيس بني البشر حتى تتحول علاقتهم بالخدم إلى أشبه ما يكون بالإهمال وأنهم آلات صماء، هنا لم تفهم تلك الخادمة أمينة مغزى كلماتي فقالت لي وهي تشير لي برأسها أنها لم تفهم مقصدي فقلت لها: لا يوجد شيء يا أمينة فلقد كنت أفكر عن الشخص الذي سوف يشرب الشاي وهو بارد هكذا ((ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء))....سعود المحمود

الطاووس والنعامات الصغيرة

في إحدى القرى الريفية كان هناك مزرعة يقطن فيها مزارع وزوجته،كان في تلك المزرعة حظيرة صغيرة يعيش فيها طاووس ونعامات صغيرة. ذات يوم عزم الرجل على السفر مع زوجته، حمل ذلك الرجل وزوجته هم تلك النعامات الصغيرة، فأخذا يفكران ويقولان:كيف لنا أن نترك النعامات الصغيرة دون متابعه خلال سفرنا، ونحن لا نعرف أحداً في الجوار نوكل له الاهتمام بهن ورعايتهن خلال فترة غيابنا. نظر الزوجان بعضهما في محاولة لإيجاد فكرةٍ ما!! هنا جلس الزوج يقول لزوجته: ما رأيكِ أن نوكل للطاووس مهمة متابعة تلك النعامات؟ فهو محبوب لدينا، هنا عقبت الزوجة بقولها: إنها فكرة صائبة فالطاووس لن يخيب ثقتنا به وسوف يعتني بتلك النعامات الصغيرة على أكمل وجه. اجتمع الزوجان بالطاووس فأمراه بالاعتناء التام بالنعامات ورعايتهن أثناء غيابهما فوعدهما الطاووس بتنفيذ ما طلباه منه ومضى الزوجان بعد ذلك في طريق رحلتهما مطمئنين على حال النعامات في ظل وجودهن تحت رعاية الطاووس. كانت النعامات حديثة نمو وصغيرة الحجم فلم تكن عالمة بما هو حولها من أحداث الحياة، أمر الطاووس النعامات الصغيرة بالدخول لقفص كان موجوداً في الحظيرة فجلست داخل القفص فقام الطاووس بدوره بإقفال القفص، كان يرى الطاووس في تصرفه ذلك ذريعة منطقية بالنسبة له لحماية النعامات من الخطر وعزلها عن العالم الخارجي لكي لا ينتف ريشها الثمين كل من يراه. كان في داخل القفص فتحة صغيرة تنبعث منها أشعة الشمس ويسمع منها أصوات بقية الطيور والحيوانات. ذات يوم مر بلبل عابر فوقف عند فتحة القفص وأخذ يشدو بالتغريد، فأحس بوجود النعامات الصغار في داخل القفص بعد سماعه لصوتها الصادر، فأخذ البلبل يلقي التحية على النعامات الصغيرة وأخذ يسألها: لماذا أنتن جالسات في هذا القفص؟ فأجابت النعامات: لا ندري، فنحن هذا حالنا منذ ولدنا..! فسأل البلبل مجدداً: هل أنتن تغردن مثلي؟
فأجابت النعامات: لا ندري..! في ذلك الوقت جاء ديك ووقف بجانب البلبل وأخذ يسأل النعامات: لماذا أنتن جالسات في هذا القفص؟ فأجابت النعامات: لا ندري، فنحن هذا حالنا منذ ولدنا..! فسأل الديك مجدداً: هل أنتن تصحن مثلي؟ 
فأجابت النعامات: لا ندري..! هنا مر ببغاء ووقف بجانب البلبل والديك وأخذ بدوره يسأل النعامات: لماذا أنتن جالسات في هذا القفص؟ فأجابت النعامات: لا ندري، فنحن هذا حالنا منذ ولدنا..! فسأل الببغاء مجدداً: هل أنتن ترددن الكلام مثلي؟ فأجابت النعامات: لا ندري..! هنا جلس البلبل والديك والببغاء يتساءلون فيما بينهم قائلين: لماذا هو حال تلك النعامات لا تدري عن شيء يخصها ولا تعلم من أمرها شيئاً؟ النعامات تمشي ولها ريش وتضع رأساً في الأرض ولديها قوة سمع و..و.. وأخذ البلبل والديك والببغاء يعددون صفات النعامة الغائبة عن معرفة النعامات الصغيرة. هناك نظر البلبل والديك والببغاء لذلك الطاووس الواقف بغرور وخيلاء عند باب القفص فأشرقت الشمس وأخذ يستعرض الطاووس ريشه الملون الذي غطى باب القفص، وفي الوقت نفسه دخلت فجأة للحظيرة بجعة بيضاء جميلة فلفتت انتباه ذلك الطاووس الذي صار يتبعها حتى خرجا معاً من الحظيرة، فجأة دخل ذئب صغير لتلك الحظيرة وتوجه صوب القفص وقام بكسره وحمل تلك النعامات، هنا غرد البلبل وصاح الديك وردد الببغاء تغريد البلبل وصياح الديك، فرد عليهم الذئب لا تخافوا فأنا لست شريراً بل جئت لأحرر وأنقذ النعامات الصغيرة من قبضة وقيد ذلك الطاووس المتسلط، فلقد مات المزارع وضاعت زوجته في سفرهما والطاووس قد راح يلهث خلف تلك البجعة ولن يأبه لأمر هذه النعامات التي قد تموت لو بقيت دون توعية وتعريف بما هي تملكه وقد تموت لو بقيت عائشة على جهلها......سعود المحمود