الاثنين، 12 مارس 2012

الحروف الساقطة والورود الناطقة



ذات صباح حيث الهواء كان يشكو لحاله برودة الجو لينطق به عبر صوت هبوبه الهادئ في تلك اللحظة، كان سعيد يمضي بسيارته يرافقه كوب قهوته السوداء والتي كان يطفو على وجهها بياض السكر الذابل الهائم على نفسه بين مزيجها. كان هناك متسع من الوقت قبل ذهابه للعمل لبدء نشاط يوم جديد. توقف حلق السيارة عن الأنين ليصمت عن الكلام لسويعات قليلة فترجل سعيد وأخذ يمشي لحديقة كانت قريبة من الجوار، نزل حاملاً كوب قهوته التي أوشكت على البرود، لقد ذاب السكر في أحشائها لكنه ما يزال دون تحريك،
حمل معه دفتر كتابة قديماً وأثناء مشيه نحو كرسي كان جامداً وسط تلك الحديقة ليجلس عليه، رأى سعيد ورقات شجر كانت تمشي على الأرض!! كانت تدفعها تغاريد ضحكات طفل كانت صادرة من الطرف الآخر من الحديقة وفجأة بينما كان يتتبع مصدر ذلك الصوت سقطت من دفتره دون أن يشعر حروف كلام وأحاديث قديمة فتهاوت للأسفل فدوى رنين سقوطها مسامع أذن الماضي الذي تشظت أيامه وذكرياته!!

كانت العائلتان ذات يوم ذاهبتين لقضاء نزهة مع أطفالهما في الحديقة، كانت تهاني وسعيد يتسابقان الخُطا للعب على أراجيح منصوبة وسط باحة تكسوها الرمال والحجارة، فسبقت تهاني سعيد فركبت على الأرجوحة وأخذت تقول له: سبقتك بالركوب يا سعيد، إذن ينبغي عليك الانتظار وأن تدفعني لأني لن أستطيع دفع نفسي.
فأجابها سعيد : لا ادفعي بنفسك ريثما أعود إليك يا تهاني.
فردت تهاني قائلة: إلى أين أنت ذاهب؟
عاد سعيد لتهاني فقال لها: أغمضي عينيك يا تهاني؟
فقالت له: لا تخفني يا سعيد فأنا أخاف من إغماضة العين!
سعيد: لا تخافي، فقط أغمضي عينيك.
تهاني: حسناً ها أنا قد أغضمت عينيّ.
سعيد: الآن افتحي عينيك يا تهاني.
تهاني: أوووه إنها جميلة!! هل هذه لي يا سعيد؟
سعيد: نعم هذه الوردة لك، لقد قطفتها من أجلك.
تهاني: شكراً لك، تعال لقد سمعت أننا حينما نكبر سوف يكون لدينا الكثير من باقات الورود.
سعيد: طبعاً فدوماً ما أرى العروسين حينما يتزوجان يُهدى إليهم أكاليل من الورود.
فجأة تفجرت ورقات الوردة فزعاً من صوت صراخ قادم كان ضجيجه يقول: تهاني تهاني تعالي هيا سوف نذهب للبيت تعالي هيا!!
أمي لماذا سوف نعود فنحن للتو جئنا؟
فقالت الأم لتهاني: لن نأتي مرة ثانية هل تسمعين الكلام، ما هذه الوردة القبيحة التي في يدك، ألقي بها أرضاً، فأمسكت الأم بيد تهاني وأخذت تسير بها عائدتين لبيتهم والتي بدورها رمت لسعيد بدموع انطبعت على قلب ورقات تلك الوردة الملقاة على ناصية رصيف الحديقة.

أرخى سعيد ظهره وألقى بأنامل يده ليجمع حروف دفتره التي سقطت على الأرض أثناء مشيه فقام بنفض الغبار عنها وأعادها لأدراج سطورها بين الورق. تابع سعيد سيره متتبعاً لمصدر صوت ذلك الطفل الذي كانت ضحكاته تجوب في مسامعه فاقترب أكثر وألقى بنظرة متخفية خلف بُرقع عينيه صوب الطفل الضاحك، رأى سعيد طفلاً كان يعتلي أرجوحة وامرأة من خلفه تقوم بدفعه وكانت تقول له: هل اكتفيت يا سعيد من اللعب الآن لقد أوشك باص المدرسة على القدوم؟
فكان الطفل يجيبها: لا يا أمي ما زلت أريد اللعب؟
فقالت له: حسناً لديك دقائق معدودة ريثما يأتي السائق لنذهب للمدرسة.
هنا توجه سعيد صوب تلك المرأة وطفلها وقال: كيف حالك يا تهاني؟
فدُهشت تهاني من هول المصادفة التي لم تتوقعها فأخذت تقول: سعيد كيف جئت إلى هنا؟
فرد سعيد: لقد كنت مارّاً بالجوار فغالباً ما آتي هنا للمشي على أطلال ذكريات سالفة، لكن ما الذي أتى بك أنت؟ ما أعلمه أنك تسكنين في حي آخر فهل انتقلت للعيش بجوار بيت أسرتك؟
تهاني: لا بل عدت حديثاً للمكوث في بيت أهلي، ربما لم تعلم أني انفصلت عن زوجي السابق.
سعيد: لا لم أعلم بحقيقة هذا الأمر يا تهاني. هذا هو إذاً ابنك سعيد أليس كذلك؟
تهاني: نعم هو ابني وأسميته سعيد.
سعيد: هل تذكرين حينما كنا نأتي في صغرنا لهذه الحديقة؟
تهاني: وكيف لي أن أنسى ذكريات جميلة لا تُنسى، كان أهلي حينها يقولون إني سأكون عروسك، لكن ربما كان في الأمر خيرٌ لي ولك، فأمي ما زالت تقول: زواج الأقارب عقارب.
سعيد: ربما كان صحيحاً ما قالته أمك، لكننا أضحينا كعقارب الساعة فهي تماماً تلاحق بعضها بعضاً فتلتقي ثم تنفصل لتلاحق بعضها بعضاً مجدداً.
تهاني: حديث الذكريات لا ينتهي يا سعيد.
سعيد: بالفعل هو كذلك لا ينتهي حينما تستجلبه الذاكرة.
ذهب سعيد لسيارته مسرعاً وعاد حاملاً معه وردة ذابلة فأعطاها للطفل الذي بدا مسروراً بها، فأخذت تهاني تقول له: هل هذه نفس الوردة التي قذفت بها أمي وألقتها أرضاً.
فأجاب سعيد بقوله: ههه بالطبع ليست هي فتلك قد ذهبت أدراج الرياح لكن صورتها بقيت متشبثة في مخيلتك ومخيلتي.
هنا بدأ قلب سيارة السائق بالنبض المتعالي فكان ينادي الطفل ليذهب به للمدرسة، فقالت تهاني لسعيد: سوف أستأذن منك يا سعيد بالانصراف الآن سأرافق سعيد للمدرسة.
فرد سعيد بقوله: لنبقَ على تواصل يا تهاني.
تهاني: بالطبع سنبقى على تواصل على ضفاف نهر ذكريات الماضي وشاطئ الحاضر وأما المستقبل فلا ندري هل سيكون فيه التقاء......سعود المحمود


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق