تلك الحديقة القريبة من منزلنا، أقصدها بشكل شبه يومي أذهب إلى تلك الحديقة مصطحباً معي ابنة أختي الصغيرة لكي تمارس هوايتها المفضلة في التأرجح على تلك الأراجيح الموجودة في جنبات تلك الحديقة، تسألني دوماً لماذا لا تتأرجح معي ياخالي العزيز؟ فأجيبها قائلاً لها: تأرجحي وامتلئي سعادة يا صغيرتي الحلوة فأنا منذ كنت صغيراً في عمرك كنت أحب هذه اللعبة لكن عندما كبرت تركتها وتحولت إلى تلك الأراجيح التي نصادفها في حياتنا اليومية والعملية وكثير من الجوانب الأخرى، فهي تغنينا عن أي أرجوحة أخرى. كانت تلك الحديقة القريبة من منزلنا مكاناً جميلاً للعب فيه، مسطحات خضراء أخاذة، أشجار وارفة الظلال، أشياء تستجلب في نفس الكاتب مشاعر التعبير المتفجرة والمتشظية في بيانها وسردها الأدبي الخالص. كنت أذهب لتلك الحديقة فأجتمع مع الرفقاء والأصحاب، تارة نتجاذب أطراف الحديث في أي شأن، وتارة نلعب الورق، وتارة نمارس الإسقاطات على بعضنا بعضاً والطُّرف على كل منا لكن القلوب تبقى صافية كصفاء الماء فالمقصد دوماً هو البسمة التي تبقى مرتسمة قبل وبعد كل لقاء. كان في تلك الحديقة امرأة تضع بساطها اليومي في جنبات تلك الحديقة، تبيع ما لديها على المرتادين والزائرين، كان لدى تلك المرأة خادمة وكانت تدعى-أمينة- امرأة من دولة إندونيسيا قرعت الأجراس باب عمرها الذي وصل لمنتصف الأربعينيات. كنت دوماً عندما آتي لشراء شيء أشربه من تلك البائعة تبدأ أمينة الحديث معي، ربما لأني دوماً لا أضع حواجز أمام المحيطين بي فكان ذلك عنصراً مساعداً أن تتحدث بأريحية مطلقة معي في كل مرة أذهب لشراء شيء من تلك البضاعة المتجولة، في كل مرة تبدأ حديثها المقتضب معي حول أبنائها في إندونيسيا حيث إن لها ابنة بلغت الخامسة عشرة من عمرها ولم ترها خلال ثلاث سنوات مضت!! يا إلهي مدة ليست بالسهلة إطلاقاً، يا لحالكم البائس يا معشر الخدم والسائقين فلولا لقمة العيش الصعبة أكاد أجزم أنكم لم تتركوا الديار والأهل كي تأتوا لمصير متعب بالنسبة لكم، أتيت في تلك المرة وما أن فرغت من طلب قليل من الشاي حتى بدأت أمينة بالحديث والتشكي فلم أملك سوى أن أرخيت سمعي وأذني قليلاً لحديثها فكانت تقول إنها ستذهب قريباً لإندونيسيا لزيارة ابنتها وإنها سوف تقضي ما يقارب أسبوعين بعد غياب ثلاث سنوات وإنها تأخرت جدّاً عن موعد زيارة أهلها بسبب أعمال البيت عند المرأة التي تعمل لديها ففضلت تأخير زيارتها كي تساعدها في أمورها الخاصة والتي لم تستدعِ تأخير زيارة تلك الخادمة لبلدها حسب إفادة أمينة في سياق كلامها لي. كان ذلك الحوار هو الدائم كلما جئت كي أبتاع منها شيئاً فما تلبث أن تتحدث معي ذلك الحوار الحزائني الذي يعبر عن حالتها النفسية، فلم أكن أمتلك سوى المسايرة في الحديث والتفاعل مع شكواها، وما أن انتهت من حديثها معي حتى قالت لي بلغتها العربية المتكسرة -أوووه مستر شاهي بورد- وكانت تعني أن ذلك الشاي الذي اشتريته كان قد برد في أثناء حديثها معي، فقلت لها لا مشكلة إذا كان البرود سيقتصر على ذلك الشاي فلا يمتد ذلك البرود لمشاعر وأحاسيس بني البشر حتى تتحول علاقتهم بالخدم إلى أشبه ما يكون بالإهمال وأنهم آلات صماء، هنا لم تفهم تلك الخادمة أمينة مغزى كلماتي فقالت لي وهي تشير لي برأسها أنها لم تفهم مقصدي فقلت لها: لا يوجد شيء يا أمينة فلقد كنت أفكر عن الشخص الذي سوف يشرب الشاي وهو بارد هكذا ((ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء))....سعود المحمود
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق