ذات يوم اتصل الأخ الكبير بإخوته، استغرب كل فردٍ منهم نبضات ذلك الاتصال، حيث إنه كان الأول من نوعه على صعيد تواصل الإخوة فقال لهم أخوهم: سوف يكون اجتماعنا في بيت الوالدة دون أن يكشف عن أسباب أخرى لهم فشدد عليهم بالحرص على الحضور باكراً. مساء ذلك اليوم اجتمع الإخوة في بيت أبيهم بحضور والدتهم، كان ذلك الاجتماع هو الأول منذ سنين مضت على وفاة أبيهم حيث كانوا يجتمعون في الماضي عندما يحين موعد الغداء وفي أوقات العيد والمناسبات دون حضور حقيقي لمشاعر اهتمام وأحاسيس وئام متبادل تم تغييبها قسريّاً بفعل شخص آخر. بدأ الاجتماع وتحدث كبير الإخوة أمام إخوته لأول مرة، اعترف خلال ذلك اللقاء أن ثمة تباعداً وهوة شاسعة بين الجميع ارتسمت ملامحها خلال الاجتماع البارد في أحاسيسه والساخن في اعترافاته، أخذ الأخ الكبير يعترف بتقصيره ويسوق الاعتذارات على أخطاء لم يكن له يد ومرمى حجر في كثيرٍ منها فاعتذر عن أنه كان يتصل على إخوته دون أن يستشعر كلمة-كيف حالك أخي.. كيف حالكِ أختي- و تساءل متى كانت آخر مرة دعوتكم فيها لزيارة منزلي و و و الكثير من المكاشفات والاستجلابات التي ساقها لهم من بطن الذاكرة والتي جاءت متأخرة بعد وفاة قطار مشاعرها الذي حاد عن سكة حبال أولئك الإخوة، في الطرف الآخر من ذلك الاجتماع كان يجلس شاب كبير بقلب طفل صغير-هكذا كان يرى نفسه-كان يشاهد باهتمام بالغ لعروض وأحداث ذلك المسرح العائلي، لفت انتباه ذلك الولد ورقة كانت منزوية على استحياء تحت طرف الأريكة فتناولها وأخذ يحدق بالورقة بتركيز شديد فجلس يخاطبها قائلاً: أنت ورقة بيضاء ويجب أن تبقي كذلك حتى يتضح على جسدك الأبيض فأي صورة جميلة ترسم عليكِ دون ضباب غيوم أو كلمات تسطر على صدرك لتمد الآخرين بحليب صافٍ نقي خالٍ من السموم، فجأة ابتسمت الورقة في وجه ذلك الطفل، ربما رأى ذلك الطفل صورة جميلة عن الاجتماع الذي كان فيه أراد هو رسمها يوماً لكنه لم يكن يملك ريشة رسم وقتها، أو كلمات معبرة في أحاديث ذلك الاجتماع لكنه كذلك لم يكن يملك قلماً وقتها أيضاً أو حبراً صادقاً، و على حين غرة سمع الولد الصغير صوتاً مفزعاً ومخيفاً!! لقد كان صوت ذلك الابن المدلل الذي غيّب كل أصوات فكرت في الحديث فتكلم الابن المدلل مخاطباً أخاه الأكبر: ماذا لديك أيها الأخ من شيءٍ آخر تقوله غير الذي ذكرته؟ فعقب الأخ الكبير على سؤال الابن المدلل قائلاً: إذا كان لدى أي شخص منكم كلام يريد قوله فلا يتردد فهذا اجتماع مصارحة، هنا لم ينبس أحدٌ من الإخوة ببنت شفة ولم يسمعوا سوى رنين مزعج لصوت ذلك الابن المدلل الذي قال مختتماً مسرح ذلك الاجتماع: أهم شيءٍ أن تتوقفوا عن الحساسية المفرطة من قبلكم والمبالغ فيها لكي نهنأ في حياتنا!! في الطرف الآخر جلس الولد الصغير يتأمل ملامح أمه الحاضرة الغائبة عن أحداث ذلك الاجتماع فأخذ الولد يتأمل صدى تنهيدات صوتها الذي ارتسم على قسمات وجهها فأخذ يحلل ملامح صمتها الغارق في بحر تجاعيد خديها الناعمين وراحة يديها الدافئتين فكأن لسان عقل و حال تلك الأم يقول: قد أكون مخطئة أنا وزوجي حينما أفرطنا في تدليل ذلك الولد فمنحناه زمام التحكم في كل شيء فتصدر هو مقود القيادة بالنيابة عنا دون أن ندري، هنا مضى الابن المدلل في خطوات سيره نحو خشبة المسرح ليسدل عليه خيوط الستار ويقرأ عليه كلمات الختام وذهب عائداً متجهاً نحو زوجته وبيته مخلفاً وراءه غبار وتراب خطواته فذهب الولد الصغير مسرعاً ليمسك بالمكنسة ليكنس آثارها لكي لا يبقى لها أثر لأن ذلك الطفل قرر أن ينتشل نفوس إخوته من بحار الجهل الحسي والاختطاف العقلي التي غرقوا فيها في ظل تسلط أخيهم ليعيد رحلة بناء وتصحيح لهم بعد هدم ركام بقايا تاريخ ذلك الابن المدلل وليطمس تلك الصورة الذهنية التي رسمها الشعور الاعتقادي المخطئ من الإخوة والذي أصله وغذاه ذلك الأخ لحياتهم وشخصياتهم المغيبة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق