الأربعاء، 29 أغسطس 2012

أم خالد...حكاية كفاح ومآساة وطن

أم خالد، إمرأة سعودية تعيش في بلد الذهب الأسود، فاللون الأسود كما أنه يعني لون اللباس الذي تحتشم وتستتر به، فهو أيضًا كان يرمز لسوداوية معاني كثير من مشاهد حياتها.
أم خالد، إمرأة تقف على بدايات عتبة عقدها الرابع لتطرق بابه دون أن تعلم ما يكون على بقية عتبات عمرها.
أم خالد، إمرأة خاضت تجربة الزواج أكثر من مرة، في أحد زيجاتها رزقت بإبنها البكر فسمته((خالد))، مضت أيامٌ لتكتشف بعدها أم خالد أن إبنها يعاني من عيب خلقي في قلبه وذلك كان يعني أن عمر ذلك الطفل الصغير بات قصيرًا في الحياة. في فترة مرض الطفل كانت أم خالد تمكث في بيت أهلها بعد صراع حياة مرير عاشتها مع زوجها الذي لم يعر أدنى إهتمامًا لها أو لطفلها، فتركها وحيدةً كسيرةً في بيت أهلها تواجه أمواج عاتية تعصف بها. خلال فترة مرض الإبن، كانت أم خالد تزوره في المستشفى وفي كل مرة تستقل سيارة الأجرة وتدفع أجرة الذهاب والعودة من قيمة بيعها لبعض مصوغاتها فكانت ترفض مساعدة من أبيها لشعورها المتأصل أن المشكلة تعنيها وحدها. حانت لحظة أجل الطفل الصغير ليرحل عن مشهد الحياة، تلك اللحظة التي زلزلت كيان أم خالد التي أدى توقف قلب إبنها إلى توقف الحياة برمتها في نفسها وهي ترى وليدها يصارع نزعه الأخير عبر زجاجة الإنعاش القلبي ليلفظ أنفاسه الأخيرة فيه.


تعاقبت الأيام بعد رحيل الطفل، حاولت أم خالد استجماع قواها الخائرة لتصل لحل مع هجر ونكران زوجها لها، لم يكن لأم خالد سندٌ في الحياة سوى والدها الذي رافقها للمحكمة ذات يوم لطلب الخُلع من زوجها الذي أبى ورفض تطليقها إلا في مقابل حصوله على أتعاب المهر. قضت المحكمة بالخلع لأم خالد بعد دفع كامل الأجور المادية لزوجها من مهر وحُلي، ليتحول حينها معنى ومفهوم مسمى-الخُلع-كحق شرعي إلى تجارة مادية، وليذهب معه حكمٌ قضائي يتمثل في حصولها على نفقة لها ولطفلها من قبل زوجها أدراج الرياح نظرًا لعدم وجود شيئ يجبر الزوج حينها على التنفيذ.


رفعت الأيام أستارها من جديد في مسرح حياة أم خالد، التي قررت طي صفحة الماضي الحزين لتبدأ معه حياةً جديدة، واصلت أم خالد دراستها في أحد المعاهد الدراسية، حصلت على درجة الدبلوم العالي في تخصص الحاسب الآلي، كانت أم خالد بارزةً في جانب التصميم علاوةً على شغفها بعالم الديكور المنزلي. في لحظة مفاجئة تلقت أم خالد ضربةً موجعة أقضت مضجعها حينما توفي والدها الذي كانت تعتبره سندها وداعمها الأول في الحياة، في الوقت الذي كانت تعايش فيه نار تجاهل إخوتها الذكور وجمرة تنكر أمها لها، فكانت أم خالد ضحيةً لكثير من المشكلات بدءً من تفضيل الذكور على الإناث، وإنتهاءً بأم كانت تميل لبعض الإناث على حساب الأخريات.
 
ذات يوم تقدم رجلٌ للزواج بأم خالد، كانت الفرصة مناسبة جدًا بالنسبة لها على عدة أصعدة، فهي ستتخلص من جحيم حياة في بيت لم تشعر فيه بقيمتها وبوجودها فكانت تحس أنها مجرد عبأ ليس أكثر، وفي نفس الوقت كان حلم أم خالد بأن تعيش في ظل رجل تحتمي وتلتجأ إليه ولكي تعاود ملامسة إحساس أمومة قديم. مرت سنوات على زواج أم خالد وأعاد الماضي البعيد تمرير خيوطه ليجدد معاني بؤس وإبتلاء عصيب لأم خالد التي واجهت خلاله مشكلات نفسية كان زوجها يعاني منها. جاء يوم فرح ليمسح عن جبين أم خالد عناءات ظروفها القاسية لتسمع خلاله صرخة طفلتها التي أتت كقطرة سماء ندية فأسمتها-زهور- لتحاول مع قدوم إبنتها إستنشاق شيئًا من عبير وشذى الزهور، لكن أم خالد تفاجئت بعد مخاضها وهي على سرير المستشفى بعدم تواجد زوجها ليشاركها فرحة قدوم إبنته، ليختلط غبار الخيبة مجددًا مع رائحة أريج مع ميلاد إبنتها-زهور-.
عادت أم خالد مجددًا لطرق باب بيت الأهل، لتطرق معها ناقوس ذكريات ذاكرتها القديمة الأليمة التي أصبحت ماثلةً أمامها من جديد، لتتحمل معها عناء ووطأة نظرة أم كانت تنتظر منها نظرة حانية، ونظرة إخوة ذكور كانت تتعشم منهم بلفتة عطف، لكن خناجر الخيبة لم تفتأ تقطع أوصال روح أم خالد التي كانت يدها ممسكة بيد إبنتها-زهور-فبقيت أم خالد حبيسة في غرفتها، لتبقى غربة الروح وغربة المكان مرافقين لها كأصدقاء حزن وفيّ لا ينجليان عنها. في أحد المرات قرأت أم خالد خبرًا في الصحيفة عن إعلان لمدرسة ترغب بتوظيف معلمات لديها في قسم رياض الأطفال، تطايرت أسارير أم خالد فرحًا وسرورًا لرغبتها في التقديم على تلك الوظيفة، ذهبت تجمع أوراقها وشهاداتها كمن يجمع خيباته القديمة ليصنع منها آمال جديدة، مضت لتقدم على مؤهلاتها لتلك المدرسة لتبدأ بعد أيام وظيفتها الجديدة مصطحبةً معها إبنتها-زهور- لتضعها في روضة الأطفال ولتبقى أمام ناظريها في الوقت الذي تؤدي هي فيه مهام عملها.
 
مضت سنةٌ كاملة بصباحاتها ومساءاتها وليالها، لتتلقى أم خالد ذات يوم خطابًا من إدارة المدرسة يفيد بالإستغناء عن جميع المعلمات اللواتي لا يحملن الشهادة الجامعية، ضجت أم خالد تفكر بقلق حزين جراء ذلك القرار المؤلم بالنسبة لها، ففكرت بمهاتفة مالك المدرسة والذي لم يعر أدنى إهتمامًا بتوسلات إمرأة لا حول لها ولا قوة، فتذرع بقوله أن القرار لا رجعة فيه، خاتمًا حديثه بالإعتذار وإنهاء المكالمة. قررت أم خالد كسر اليأس والإنهزامية، فذهبت تجوب بنشاط أرجاء كثير من المدارس الأهلية لتحصل في النهاية على وظيفة براتب زهيد قارب 1300ريال والذي رغم بساطته لكنه بالنسبة لها كان يعني الكفاف والعفاف عن الحاجة واللجوء لإخوتها الذكور وغيرهم.
 
قبل أيام هاتفتني أم خالد لتخبرني بأنها إستلمت مستحقاتها المالية من المدرسة التي كانت تعمل فيها لتواصل بها دراستها الجامعية عن طريق إنتسابها في برنامج التعليم عن بعد في جامعة الإمام وهنا يتحول حق التعليم لتجارة مادية. أم خالد وضعت نصب عينها تحقيق حلم الحصول على الشهادة الجامعية لتنال معها حقها في وظيفة تحقق وتلبي إحتياجات العيش الكريم.
سعود المحمود

الخميس، 2 أغسطس 2012

بناء العقول قبل تزيين الحقول يا ياسر


صباحُ أحد الأيام لبست الأخواتُ عباءتهن ثم جلسن ينتظرن قدوم ياسر لأخذهن وجلس خلالها خالد وشقيقيه سعد وضاحي يترقبون مجيئه للذهاب
معه للمحكمة لإنهاء ترتيبات أمور الوكالة وحصر الإرث.

وصل ياسر للبيت وجاء في معيته صديقه عبدالإله والذي أتى معه ليساعده في
إنهاء معاملات التوكيل وإجراءاته ثم أخذ ياسر بعدها ينادي أخواته للركوب معه
فطلب من سعد أن يأخذ بعضهن في سيارته والبقية الأخرى يأتين معه.
قبل أن يهم الجميع بركوب السيارة أخذ ياسر يقول لشقيقه خالد: إذهب أنت
وضاحي  مع عبدالإله فسيارتي لا يوجد فيها مكان لتركب فيه.
أجاب خالد بصوت خجل غلفه التردد فقال بنبرة مترددة: المقعد الأمامي خالي بإمكاني الجلوس فيه.
فرد عليه ياسر: ألا تفهم ما أقول لك، المقعد الأمامي للرجال فقط وأنت لست برجل بل ما تزالُ صبيًا صغير لا يجيد سوى الجلوس مع أخواته والحديث معهن
إذا كنت تريد مرافقتي في السيارة فلا مكان لك سوى بالجلوس في المقاعد الخلفية
مع النساء إذا لبست العباءة مثلهن، هل تفهم ماذا أقول لك؟
لا وقت لدي أضيعه لكي أعلمك علوم الرجال، إذهب أنت وضاحي برفقة عبدالإله
إنظر لضاحي فهو يسمع الكلام وينفذه دون تردد، إنه هو الرجل الحقيقي الذي
أستطيع أن أعتمد عليه في المستقبل ليرعى مسؤولية هؤلاء النسوة فأما أنت فلا
أرى أنك كفؤ لمثل هذه المهمة وذلك الأمر.



ذهب خالد برفقة شقيقه ضاحي وركبا سيارة عبدالإله وسار الجميع في طريقهم نحو المحكمة. في الطريق إلى المحكمة أخذ خالد يفكر في كلمات أخيه ياسر فأخذ يتسائل في نفسه:
ماذا يقصد ياسر بكلمته أنه سيعتمد على ضاحي في مسؤولية رعاية أخواتي؟
أي نوع من الرعاية التي يقصدها؟
هل هي رعاية مبنية على التآلف والمحبة أم أنها رعاية مسيّجة بسياج التسلط وحواجز الشك التي يريد زرعها في نفس ضاحي الناشئة؟
ماذا ينوي أن يطبق من مخططات علينا جميعًا بعد إنهاء إجراءات الوكالة لصالحه؟

أخشى عليك يا أخي ضاحي أن تمتد يدُ ياسر الماكرة لروحك البرئية فيلوثك بمفاهيمه المعكرة وأفكاره الملوثة.
يا لهذا الإنسان الجاهل ويا لمدى السخافة التي وصل إليها تفكيره الضحل والمظلم فكيف له إعتبار من يجلس مع أخواته أنه ليس برجل!!

أو كيف له أن يعتبر من يقدم أخته الكبرى للجلوس في المقعد الأمامي شكلًا..
أو صورةً من عدم الرجولة!!
يا لأفكاره المحدودة...
يا لمعتقداته الرجعية...
ويا لتعاريف الرجولة الضيقة في نظره وعرفه بل وفي قاموسه المعرفي...







وصل الجميع لمحكمة الكتابة العدلية ثم شرعوا بالنزول من السيارة، كانت أشعة الشمس ترمي بجمارها الحارة على رؤوس الجميع، كان خالد يتأمل منظر أخواته ونفوسهن الجريحة المختبئة خلف سواد جلالبيبـهن ووهج الشمس الحارق مسلط عليهن ليزيد من تعبهن، كن ينتظرن قدوم ياسر الذي جعلهن واقفات دون تقدير لضعفهن ووهنهن وعجزهن في مثل ذلك الموقف الذي لا يطيقه الرجال الأشاوس فضلًا عن النساء، كن مستسلمات...خانعات...قد أطبق الصمت والسكوت عليهن، كما لو كان ياسر يسوقهم سوقًا لجحيم مجهول.

عاد ياسر لأخواته بعد أن كان فرغ من حديثه العابر مع صديقه عبدالإله، ثم توقف عند باب المحكمة للحظات فأخذ يوجه كلامهم لأخواته قائلًا:
سوف ندخل على الشيخ القاضي الآن، أنصتن جيدًا لما سأقوله، سوف يوجه لكم الشيخ القاضي بعض الأسئلة، مثل هل تقبلن بياسر وكيلًا عنكن في البيع...
هل تقبلن بياسر وكيلًا عنكن في الشراء...
هل تقبلن بياسر وكيلًا عنكن في إقامة الدعاوى...
هل تقبلن بياسر وكيلًا عنكن بالتصرف في الميراث...
ومن هذه الأسئلة، أريد منكن أن تقولن للشيخ القاضي إجابة واحدةً فقط وهي"نعم" فقط"نعم" وأي شيء آخر فالويل والثبور لكن.

أطرقت الأخوات برؤوسهن المرتجفة والمضطربة خوفًا وخشيةً ورعبًا من حديث ياسر فأومئن بالقبول والرضى، دون أن ينبسن ببنت شفه، فألقت عناكب الوهن والضعف عليهن بخيوط الصمت والسكوت الرهيب.



أخذ خالد يتأمل بصمت ذلك المشهد فجعل يقول في نفسه:
يبدو أن هؤلاء الأخوات المسكينات المغلوبات على أمرهن، لن يكون ياسر وكيلًا عنهن فيما سبق فحسب، فهو يريد أن يكون وكيلًا عنهن في التفكير...
وكيلًا عنهن في اتخاذ القرار...
وكيلًا عنهن في ابداء الرأي...
وكيلًا عنهن في التقاط الأنفاس...
بل هو يريد أن يكون وكيلًا عنهن في الحياة كلها حتى يردن لقبورهن...

أي حياة عبودية تلك التي تنويها لأخواتي الضعيفات يا ياسر...
أي حياة مذلة تلك التي تقصدها لأخواتي الأسيرات يا ياسر...
أي حياة هوان تلك التي تخططها لأخواتي الكريمات يا ياسر...
بل أي حياة استبداد التي تريدها لأخواتي المقموعات يا ياسر...

هو يريد أن يكون له رؤيته الخاصة...
هو يريد أن يكون له سلطته الأحادية...
هو يريد أن نسمع صوته هو فقط...
هو يريد أن نرى صورته هو فقط...
هو يريد أن نستنشق نفسه هو فقط...

هو يريد...
هو يريد...
هو يريد...
لكن الله سبحانه وتعالى هو وحده الذي يقضي بما يريد يا ياسر.

دخل الجميع للمحكمة، أحواءٌ من الصمت تخيم على المكان، كانت الساعة تشير للحادية عشر، ما تزال آثارُ شمس الظهيرة ساطعة في مخيلة خالد.
تأخر حضور الشيخ القاضي، جلست الأخوات على كراسي مهترئة كانت بجوارهن، تحسس خالد حرارة العطش وحنظل الظمأ اللذان كان حسيس صوتهما يسري
من بين عروق وأوداج أخواته، سمع خالد صوت رجل كان يبيع الماء عند مدخل
المحكمة، ذهب مسرعًا صوبه ليشتري منه ماء لأخواته، كان ياسر واقفًا برفقة
صاحبه عبدالإله  في فناء المحكمة الخارجي، كان ممسكًا بسيجارته فيمتص سمومها لينفث رمادها يمنة وشمالًا. حمل خالد قوارير الماء التي ابتاعها من البائع وبعد أن هم بالعودة لهن، استوقفه ياسر وقام يوبخه ويعنفه ثم قال:
أيها الأحمق هل تعاني اضطرابًا عقليًا...أم فرط حركة...أم ماذا؟
لقد أخبرتك أن تلزم الصمت والهدوء وتجلس مع النساء، لا أن تقوم باللعب واللهو.
لقد سببت لنا الحرج أمام مراجعي المحكمة، هيا اغرب عن وجهي واذهب واجلس
مع النساء، وإلا سأضع عقب هذه السيجارة في وجهك لتحرقه، هل فهمت ما أعني.

عاد خالد لأخواته، أعطى كل واحدة قارورة ماء لتروي كلٌ منهن عطشها، وأخذ خالد يتأمل كيفية ارتواء عطش اللحظات القادمة التي تنضوي وتختبئ دون معالم واضحة بانتظار قدوم الشيخ القاضي للشروع في شؤون حصر الإرث ووكالة الورثة.
جلس خالد ثم أخذ يحدق في محيط عيني وملامح وجه شقيقه سعد الغارق
في صمت وسكون منذ نعومة أظفاره، جعل يقول في نفسه:
أنت يا سعد ذا قلب طيب جدًا، لكنك ذا نفس ساكته جدًا يا سعد، لا يُرى لك شمس حركة تطلع فتشرق، بل ظلٌ ساكت ينزوي ليحترق فلا يؤجج ولا يحرك
ما حوله من قبور صـامتة وأضرحة هادئة، ليتحول لدخان يعلو ويرتفع لكنه لا يطير... لا يتفاعل...لا ينطلق...نحو الآفاق الواسعة وصوب الرحاب الشاسعة.
آهٍ يا أخي الغالي سعد، لو كانت تسكنك شخصيةٌ قوية لما تمكن ياسر من التجرؤ على ما ليس له حق التجرؤ عليه، والتسلط على ما ليس له حق التسلط عليه.
ها هي ملامح الخنوع الرافعة لرايات الإستسلام لجبروت ياسر المنجرف نحو الجميع أراها باديةً على وجهك الطيب وروحك العطرة يا أخي.
إن سكوتك يقتلني يا سعد قبل أن يقتلك...

إن جليد صمتك يا سعد يذبحني بدم بارد كذبح حيوان أليف لطيف لا يعلو له صوت بل حتى أنين...حينما يكون بين فكي حيوان متوحش يفترش لحمه افتراشًا وافتراسًا...تفوح من عينيه رائحة الغريزة الوحشية في تسلطها واستبدادها، هكذا
تمامًا هي رائحة ياسر يا أخي العزيز.

قطع خالد وميض خياله المتأمل لشقيقه سعد المسرف في هدوئه آنذاك، وأخذ يصوبه تجاه شقيقه ضاحي الذي كان جالسًا بجوار أختهم الصغيرة شيماء، كان ضاحي يلاعب ويمازح شيماء ببراءة الأخوة المترابطة بينهما في ذلك الوقت الذي كان ينتظر فيه البقية قدوم الشيخ القاضي.

نظر خالد نظرة اشفاق أخوية بتأمل القلب الحاني تجاههما فواصل سردياته الكلامية في نفسه المثقلة بالجراح والمليئة بالأتراح فجعل يحدث أرواحهما:
أي مصير ينتظرك أيها القمر الضاحي...أي مصير ينتظرك أيتها الشمس الشيماء...
أي حال ينتظرك أيها الشهد الضاحي...أي حال ينتظرك أيتها السلوى الشيماء...
أي مصائر...وأي أحوال...تحملها غيبيات المستقبل المجهول الذي يرسمه..يخططه ..يظلله ياسر بغمائم مكره السوداء لكما ولبقية الأخوات في قادم الأيام...قادم السنين...


لست أدري يا إخوتي غير أني سأكون مجرد ممارس لدور الصامت الشاهد على جرائم روحية في حقكم جميعًا أيها الإخوة الغاليين.
لست أدري غير أني سأكون ضحية مثلكم لكنها ستكون دائمة مستدامة تعاني الأمرين في قادم حياتها، لكني أرجو أن أكون ضحيةً مخلصةً وفيةً تستيقظ في يوم ما...وتستفيق في لحظة ما...لتنتشل جثثكم وتحمل جثامينكم على عاتقها...على كاهلها بكل الحب الأخوي نحوكم...بكل الشعور الصادق صوبكم...لتعيد إليكم عقولكم التي خطفها ذئبٌ بشري بلباس أخوي لا يرعوي غيه واستبداده...لا ينضوي ظلامه وجهله...لا ينزوي تسلطه وتمكله...لكن يومًا ما سينجلي بؤس وشؤم ذكراه عنا أيها الإخوة الأحباب.

بعد ساعات من الإنتظار وصل الشيخ القاضي للمحكمة، عاد ياسر ورافقه الجميع متجهين للشيخ القاضي، بدأ الشيخ القاضي في الشروع بعملية توكيل ياسر كوكيل
شرعي لإخوته، فأخذ يسأل كل واحدة من الأخوات قائلًا:
هل توكلين المدعو ياسر وكيلًا لك في البيع والشراء....
وجه نفس السؤال لبقية الأخوات، لم تجب أيٌ منهن بإجابة نعم واكتفوا بإيماءة رؤوسهن كإشارة بالرضى والقبول.
كرر الشيخ القاضي سؤاله عليهن مجددًا وطالبهن برفع صوتهن بالإجابة، كررت الأخوات نفس فعلهن السابق.
أجابت الأخوات بصوت خافت لم يسمع دبيب حركته الشيخ القاضي، ألقى على مسامعهن سؤاله:
أنا لا أسمعكن جيدًا، ارفعن صوتكن لو كانت إجابتكن بنعم؟
نطقت إحدى الأخوات بصوت متهدج ومتمزق تخنق أوداجه وتمسك بحبال حنجرته قبضات الخوف والتردد المنبعثة من بين سواد خمار وجهها فقالت:
نعم...نعم...نعم قد رضينا بياسر و...و...وكيلًا عنا.

كرر الشيخ القاضي سؤاله مجددًا على الأخوات ليتأكد من رغبتهن عن كثب وليقف عن قرب من جزمهن بتوكيل ياسر. قاطع ياسر الشيخ القاضي فقال متذمرًا:
أيها الشيخ الكريم، لقد أجابتك إحداهن بموافقتهن كي أكون وكيلًا عنهن فلا داعي
لتكرار السؤال، فضلًا وليس أمرًا فلتنهي معاملة الوكالة فورًا، فلدينا اجراءات
طويلة لإنهاء أمور حصر الإرث.
تدخل عبدالإله فجأة ليجادل الشيخ القاضي وليعزز موقف ياسر ثم قال:
يا فضيلة الشيخ، لقد أعدت سؤالك مرارًا وتكرارًا على هؤلاء النسوة، ولقد أومئنا برؤوسهن أمام ناظريك، وإحداهن أجابتك ثلاث مرات بنعم، فلماذا هذا التأخير
في انهاء اجراءات الوكالة، الوكيل الماثل أمامك هو شقيقهن وهو أدرى وأعلم بأمرهن ومصلحتهن.

أمسك الشيخ القاضي بمطرقته الخشبية فأخذ يطرقها على سندان طاولته ليوقف فوضى مقاطعة ياسر وعبدالإله له فقال:
أيها الإخوة الكرام نحن في محكمة وليس في مكان آخر، هذه اجراءات وكالة شرعية ويترتب عليها أمور مستقبلية عظيمة، أنا حرصت على تكرار سؤالي لهن لكي أتأكد من أن اختيارهن نابعٌ عن رغبة صادقة وبعيدًا كل البعد عن الإكراه.
أعاد الشيخ القاضي سؤاله للمرة الأخيرة على الأخوات اللواتي أطرقن برؤوسهن
المرتجفة لتنطق شفاههن بصوت عانق ظلام الخوف المنزوي بين سواد خمرهن وعباءاتهن ليجيبوا بكلمة متقطعة الحروف، مبهمة الوصوف فقلن:
نعم قد رضينا بياسر وكيلًا عنا.




ثار بركان الغضب الصمت في نفس خالد وتدفقت حمم القهر الكامنة عن الحركة فجأة، فصاح بصرخة متعالية اخترق صدرها كاتمات الصوت المانعة للصدى فجعل يقول في نفسه:
لماذا...لماذا...لماذا أيها الأخوات العزيزات...
لماذا...لماذا...لماذا أيها الأخوات الغاليات...
لماذا...لماذا...لماذا أيها الأخوات الحبيبات...
لماذا...لماذا...لماذا أيها الأخوات الحريرات...

ماذا حل بكن؟
ماذا حل بالعقل الحكيم الجميل؟
ماذا حل بالضمير الحي النبيل؟

ذلك العقل وذلك الضمير، اللذان كنتن تقصصن علي في سالف سنواتي الدراسية حين كنت صغيرًا تلك القصص الرائعة وتلك السرديات الماتعة عن مكانتهما في حياة
الإنسان والبشرية جمعاء...

ماذا حلن بهما؟
هل ماتا تحت أنقاض الماضي؟
أم شردا في متاهات الداني وسرابات القاصي؟
كيف يكون ذلك وأنتن في حضرة الشيخ القاضي...

إلى متى سترضين بحياة العبودية لذلك الياسر!!
إلى متى سترضين بحياة الرق لذلك الياسر!!
إلى متى سترضين بحياة الأسر لذلك الياسر!!
إلى متى سترضين بحياة الإختطاف العقلي من قبل ذلك الياسر!!
ماهو ذلك الضعف...ذلك الخوار الذي تغلغل في نفوسكن!!
ماهو ذلك العمى...ذلك العوار الذي ارتسم في عيونكن!!
بل ماهو ذلك السياج...ذلك السوار الذي التف حول أعناقكن!!

لقد تذكرته الآن....فهو يسكنني...يستوطنني...بل هو سجانيّ...
لقد خامرته في سنين طفولتي السالفة..
لقد ساورته في لحظات شرودي الفارطة...
لقد عايشته في أوقات هروبي من نفسي إلى نفسي...

إنه ذلك الخوف أيتها الأخوات...
ذلك الخوف الذي يختبئ في طياته زلات البشر...
ذلك الخوف الذي تختفي في ثناياه صرخات الحجر...
ذلك الخوف الذي تطفو على سطوحه إشارات الخطر...

ذلك الخوف أيتها الأخوات...لقد ظننت لوهلة أن نبض روحه قد فاض من جسد هذا العالم...
ذلك الخوف أيتها الأخوات...لقد ظننت لبرهة أن سريان دمه قد جف من عروق هذه الحياة...
ذلك الخوف أيتها الأخوات...لقد ظننت لسويعة أن حبل صوته قد اقتلع من حنجرة هذا الكون...

لكن نبض روح ذلك الخوف لم يفض من أجسادنا أيتها الأخوات...
لكن سريان دم ذلك الخوف لم تجف من عروقنا أيتها الأخوات...
لكن حبل صوت ذلك الخوف لم تقتلع من حناجرنا أيتها الأخوات...
ما تزال روحه...دمه...صوته يضربون بأطنابهم في نفوسنا وأعماقنا...
يا لذلك الخوف الذي شتت جمعنا أيتها الأخوات...
يا لذلك الخوف الذي قض مضاجعنا أيتها الأخوات...
يا لذلك الخوف الذي قوى سطوة ياسر أيتها الأخوات...

أين هو قبر ذلك الخوف أيتها الأخوات...
أين هو ضريح ذلك الخوف أيتها الأخوات...
أين هو مرقد ذلك الخوف أيتها الأخوات...
لكي أذهب فأحرقه...أنسفه من هذا الوجود...

إنه خوفنا نحن يا أخواتي...
إنه ضعفنا نحن يا أخواتي...
إنه عجزنا نحن يا أخواتي...
الذي مكن لياسر ذلك التفوق علينا جميعًا...
إنه يتحكم بنا جميعًا...ذكورنا وإناثنا...
أسفي على حالنا التي وصلنا لها أيها الإخوة...
كم تمنيت أيها القاضي أن يكون رأسي قاعدة لمطرقتك، فتضربه لتنفجر صرخات وآهات نفسي المكتومة بل وأفكار وخواطر عقلي المكلومة، التي لم تخدر كباقي
أولئك الإخوة، هي لا تبرح عن تأنيب ضمائرها في كل لحظ وحين..لكن بكل صمت..بكل سكوت...بعيدًا عن الأنظار...بعيدًا عن الأسماع...







واصل الشيخ القاضي حديثه لياسر بعد سماعه موافقة الأخوات لتوكيلهن له قائلًا:
حسنًا أرجو أنك لم تكرههن على أن يختاروك وكيلًا لهن، لكن تبقى أمرٌ آخر لكي نكمل اجراءات الوكالة.
أختك الصغيرة هذه لا يقبل وكالتك عليها لعدم بلوغها سن الرشد، لذا ينبغي أن توكلك أمك بالنيابة عنها فهي الولية عليها.
قاطع ياسر بشدة كلام الشيخ القاضي قائلًا:
هذا هراء محض، كيف يكون ذلك وأنا رجل ولي حق القوامة التي منحها لي الشرع على النساء، كيف يكون للأم أن توكل من تشاء وأنا رجل فضلني الله عليها.
هذا هراء...هذا هراء...هذا هراء أيها القاضي.

أجاب الشيخ القاضي ممتعضًا: وحيك أيها الجاهل، هل تقول عن أحكام الله تعالى هراء محض، استغفر ربك، وهذه أمك فلا تقل كلامًا سيئًا عنها.
ياسر: حسنًا لننهي اجراءات وكالة الأخوات، وسأتدبر مسألة أختي الصغرى وتوكيلها لي من قبل أمي، فأمرهن ليس عسيرًا، هن ضعيفات في النهاية ولا غنى
لهن عني، فأنا رجلٌ وهن نساء.
الشيخ القاضي: حسنًا فلتأتي بأمك وأختك لكي ننهي اجراءات الوكالة.

غادر ياسر وعلامات الإنتصار الماكر بادية عليه، وملامح النوايا الغادرة مرتسمة على محياه، تخطط وتحيك وترسم المحاولات لإنتزاع التوكيل من أمه وأخته شيماء.
غادر الجميع قاعة المحكمة متوجهين للمنزل، وأخذ معها خالد ينتظر ما ستحمله الغيبيات له ولإخوته في قادم الأيام.




أطلت خيوط شمس يوم جديد على نافذة غرفة خالد، كانت جفونه ماتزال هائمة
في أحداث الأمس الذي فر وولى ا لذاكرة الماضي المحفوظة في عقله.
سمع حينها حركة صوت صادرة في صالة المنزل، قام حينها ليتحسس تواجد من في الصالة، كانت أمه جالسة شاردة...حائرة...ساهمة الفكر، كمن يرقب حدوث أمر ما.

كانت الأم تمسك عباءتها بيديّها، مع كل اطراقة تفكير كانت تشد على العباءة بباطن راحة يديّها الغارقتان بتجاعيد الزمان وخريف العمر.
اقترت خالد من أمه أكثر، ألقى عليها تحية الصباح ثم قال بصمت خجل:
ما بالك يا أماه تبدين قلقة ومتوترة؟
الأم: لا شيء يا حبيبي خالد، فقط أنتظر قدوم أخيك ياسر ليصطحبني معه أنا وشيماء لإنجاز أمر توكيله.
ارتعدت فرائصُ خالد فجأة بعد سماع مقولة أمه، فبدت في مخيلته صورة ياسر وهو يجر أمه وأخواته بسلاسل التسلط رغمًا عنهم، وهو غير قادر على تقديم يد العون
والمساعدة لهم.

تحدث خالد لأمه قائلًا: حسنًا يا أمي لماذا لا توكلين أخي سعيد ليكون وكيلًا عنكم أنت وشيماء؟
الأم: بودي ذلك يا بني، إن الشك يساورني من أخيك ياسر، لا أدري لماذا أشعر
أنه يجهز لنا أمرًا ما، لقد رأيت في منامي البارحة حلمًا مفزعًا ظهر لي فيه ياسر، ربما تكون مجرد وساوس من الشيطان وأضغاث أحلام لا تفسير لها.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم منها يا ولدي.




كرر خالد سؤاله مجددًا على أمه فقال:
لم تجيبي على سؤالي يا أمي بشأن توكيل أخي سعيد، صدقيني إنه أمرٌ جيد لكما، فسعيد قلبه طيب وأهلٌ للثقة.
أجابت الأم بحسرة: بودي ذلك يا ولدي لكن....
خالد: لكن ماذا يا أمي؟
الأم: ستكون نظرة أهل أبيك رحمه الله وأبناء عمه ساخرة مني يا بني، سيطلقون راجمات ألسنهم علي، سيقولون عني كيف لزوجة محمد أن توكل ابنها سعيد وكيلًا
لها ولإبنتها وهو أخٌ غير شقيق لبقية أولادها، وكيف لها أن تترك ابنها ياسر فتوكل
غيره. أنت لا تعرف يا بني الحبيب نظرات الإزدراء القاتلة من أبناء عم أبيك، لقد
عانيت الأمرين منها منذ زواجي الأول بابن عم أبيك وبعد أن أنجبت منه اخوتك
بسمة ونهال وسعيد، وبعد وفاته تشردت هنا وهناك، من مكان لآخر، من بيت لبيت، أحمل أحلام أولئك الصغار وآمالهم المبعثرة، حتى استقر بي الأمر بعد
ذلك وتزوجت بأبيك الذي تحدى نقد الجميع له من أبناء عمه وأشقائه، حين رفضوا زواجه بي لأني إمرأةٌ أجنبية لست من أهل هذا البلد فضلًا عن أني أرملة، فتحملت تعاملهم القاسي وشعورهم الجافي نحوي، فارقت إخوتك وهم صغار فتربوا ونشأوا في أحضان الغير من أعمامهم، فصارعت لوحدي يا بني أهوال نيرانهم الحارقة لقلبي، لكني في نهاية الأمر صبرت واحتسبت كل ذلك لأجلكم جميعًا.
بعد ذلك كله يصعب علي يا بني أن أتحمل نظراتهم الحاقدة وسهامهم الكارهة لي، فيما لو فضلت أخاك سعيد على ياسر لأوكله بالتالي كوكيل لي.
لقد بلغ العمر والسن مبلغهما الكبير مني  يا بني...
لقد رسمت تجاعيد الزمان أحافيرها على وجهي المثقل بالهموم يا بني...
أريد أن أرتاح ما تبقي لي من عمري، فليس لدي سعةٌ من القوة لأدخل معترك
مواجهات مع أبناء عم أبيك وزوجاتهم وأقاربهم من جديد، يكفيني ما كان في الماضي.


فاضت مقلتا خالد بالدموع، فانكب على أمه يعانقها ويقبلها بعد سماعه لسيل حزن الماضي الهادر المموج بالجراح والندوب والملون بالآلام والمآسي.
أخذ يقول لها:
لا تحزني يا أماه، فليذهب أبناء العم إلى حيث ألقت، لا تلقي لهم بالًا أو تعطي لهم اهتمامًا، سوف تسير الأمور على خير إن شاء الله، سأبقى طيلة عمري بجانبك
أنت وإخوتي، لن أترككم ما حييت أيتها الأم النبيلة.
نظرت الأم نظر حب لإبنها خالد فعقبت لتقول:
دومًا أرى أنك وريثي يا بني، لقد ورثت مني كثيرًا من الصفات التي لم يرثها عني بقية اخوتك، قلبك صافي ونفسك نقية وشعورك نبيل، تحمل على عاتقك آلام الجميع، فلتبقى كذلك يا بني كما عرفتك.

رن هاتف الأم فجأة، لقد كان ياسر ينتظرها في الخارج، طرق الخوف وضرب القلق قلب الأم المسكينة لسماعها رنين هاتف ياسر، كذلك قلبها الضعيف رن
بأنين القلق والتوتر والتشنج.
استأذنت الأم ولدها قائلة له:
ادعو لي يا بني أن تسير الأمور على خير.
خالد: ليحفظك الله تعالى ويرعاك يا أماه.
نادت الأم على ابنتها شيماء، أمسكت بيدها ثم ذهبتا نحو ياسر المنتظر لهما بشغف، كمن كان ينتظر بنهم قدوم مزيد من الضحايا الأبرياء نحوه ليمارس عليهم القتل اللذيذ في نظره، ذلك القتل النفسي الذي سيمارسه على مدار لحظات وأوقات حياتهم القادمة.




وصل ياسر برفقة أمه وشيماء لقاعة المحكمة، بعد دخولهم نادى الشيخ القاضي على الأم وابنتها لتمثلا أمامه، قامت الأم تمسك بيد ابنتها مستجيبتان لنداء الشيخ القاضي لهما، قام ياسر ليرافقهما في تلك اللحظة، ردع الشيخ القاضي حينها ياسر
وطالبه بالبقاء في مكانه قائلًا له:
لقد ناديت على أمك وأختك فلا داعي لمجيئك، أرجو منك البقاء هادئًا وعدم المقاطعة.

أخذ الشيخ القاضي يوجه سؤاله للأم فقال لها:
هل توكلين ابنك كوكيل شرعي لي ولإبنتك شيماء؟
صمتت الأم للحظات، وقد ارتسمت ملامح التردد على شفاهها التي جففها الوجل
والخوف، فما تزال مطبقة في صمتها وغارقة في سكوتها.
كرر الشيخ القاضي سؤاله مجددًا للأم:
أيتها الأم الفاضلة، لم تجيبي على سؤالي، هل توكلين ابنك ياسر وكيلًا شرعي لك ولإبنتك شيماء؟
أجابت الأم بصوت مبعثر التناهيد وحروف مشتتة المعاني فقالت:
نعم حضرة القاضي، قد رضيت بتوكيل ياسر وكيلًا شرعي لي ولإبنتي.
قال الشيخ القاضي للأم:
أيتها الأم الفاضلة، هذه وكالة شرعية وتترتب عليها أمور مستقبيلة كثيرة، أرجو أن يكون قرار توكيلك مبني على الرضا والقناعة والرغبة، وليس على الإكراه والخوف والتردد، أخبريني لو كان الأمر خلافًا لما ذكرته ولا تخافي من شيء.
أجابت الأم بتردد وصوت متهدج: لا يا سيادة القاضي، قد اخترته برغبة مني دون اكراه يذكر إن شاء الله تعالى.


عقب الشيخ القاضي بقوله:
أيتها الأم الكريمة، الوكالة الشرعية بترتب عليها كثيرٌ من الأشياء التي لا مجال للرجوع فيها بعد الشعور بالندم، بإمكانك التريث قليلًا لدراسة الأمر من كافة جوانبه، ربما تحتاجين لمزيد من الوقت لدراسة الأمر من جميع جوانبه ثم إصدار قرارك النهائي بعد ذلك.
قاطع ياسر حديث الشيخ القاضي بغضب وحنق فلم يحترم أنه في حضرة الشيخ القاضي فقال:
أنت تؤثر على أمي بكلامك يا هذا، من تظن نفسك؟
أنت ليس لك الحق أن تملي عليها ما تريده.
طلبت الأم من ياسر التزام الهدوء، ثم أجابت الشيخ القاضي لتقول:
لا حاجة للتريث يا سيادة القاضي، لقد اتخذت قراري النهائي.
عقب الشيخ القاضي بعدها: حسنًا فليكن كما ترغبين أيتها الأم الفاضلة، وأدعو الله تعالى أن لا يكون هناك ندمٌ في المستقبل لقرارك الذي اتخذتيه بشأن التوكيل.

خرج ياسر مصطحبًا معه أمه وأخته شيماء، في السيارة وأثناء عودتهم للبيت أخذ ياسر يقول لأمه بأسلوب فظ لم يقدر خلاله كبر سنها:
يبدو أن هناك من ملء رأسك بألاعيب ودسائس بأن توكيلي غيري أليس كذلك؟
الآن أنا الوكيل الشرعي عنكم جميعًا أيها النسوة، لقد كان أبي مخطئًا حينما ترك لكم
الحبل على الغارب، تقلن ما تشاؤون، تفعلن ما تريدون.
من الآن وصاعدًا سأعيد صياغة وبناء هذا البيت من جديد بما فيها بناتك اللاتي
يحتجن لمزيد من الرقابة والإنتباه، لكي لا يحسبن أنهن سيـمضين في هذه الحياة
دون أن يكون هناك شمس رجل يرافقهن ليحصي عليهن كل شيء حتى أنفاسهن وأفعالهن.

هكذا أنتن يا معشر النساء يجب أن تكن تحت مجهر الرقابة الدائمة، وإلا ستجلبن الفضيحة والعار والشنار لأهلكن.

في صبيحة أحد الأيام، استفاق خالد مذعورًا وفزعًا من نومه، كان هناك أصوات
آلات حفر وتكسير قد سمعها تصدر من فناء بيتهم، فراغ يجري ليرى ماذا في الأمر. كان باب مدخل الصالة مغلقًا وكذلك بقية الأبواب المؤدية لفناء البيت، ذهب خالد يجري بسرعة لمجلس الضيوف ليرى عبر نافذته شأن تلك الأصوات المزعجة. ما أن وصل وألقى نظرة على فناء المنزل حتى اندهش من هول ما رأته
عيناه. جدران البيت قد تم ردمها،أسوار المنزل تم تحطيمهت،بلاط المدخل تم تكسيره، كذلك حديقة المنزل التي كان يجلس فيها تم قلع أشجارها وعشبها والزهور والورود تمت إزالتها بالكامل. صور من الخراب وأشكال من الفوضى كانت تعم أرجاء فناء وساحة البيت، آلات التكسير والحفر كان بعضها خارجًا والأخرى بداخل البيت.
شاهد خالد أخاه سعيد يخرج من البيت، كان وجهه قد ارتسمت عليه ملامح القهر
وانكسار الكبرياء، كأن خناجر تنقص وازدراء قد طعنت قدره.

في أثناء تحديق خالد لتلك المشاهد، سمع صوت بكاء ونحيب أمه يتقاطر أنينه المتزق بالألم من غرفة المعيشة، ففزع نحوها حتى وصل عندها، أخذ يسألها قائلًا:
ما بالك يا أمي لماذا تبكين، ما الأمر؟
أجابت الأم ودموع الحرقة تذرف من على خديها الغارقتان في تجاعيد الحزن فقالت:
لقد اقتلع ياسر شجرة الزيتون التي كانت في الحديقة، دون أن يستأذنني في ذلك، إنها غالية علي جدًا، لقد كنت في كل صباح آخذ حبات الزيتون لأقوم بعصرها واستخراج الزيت منها لأستخدمه في الطهي وأشياء أخرى.

قطع صوت صفق باب المدخل حديث الأم، فصعق صوته الرعدي مسامع آذان خالد، دخل ياسر لغرفة المعيشة ثم أخذ يوجه سهام كلامه التي مزقت فؤاد أمه
الباكية ليقول لها:
هل ما زلت تبكين وتمارسين بكائك السخيف الذي تعلمته من أفلام ومسلسلات التلفاز السخيفة التي أدمنت رؤيتها، يا لهذه السخافة والسذاجة التي أراها ماثلة
أمامي الآن، هل تبكين على شجرة زيتون.

تبًا لهذا الإحساس السخيف الذي تسكنك...
تبًا لهذا الشعور التافه الذي يعيش فيك...
تبًا لهذه العاطفة الغبية التي تسري في دمك...
بل تبًا لهذا الولد الغبي الذي يجلس لجوارك...
لقد تشرب منك معاني البلادة والحماقة فأضحى كباقي أخواته الساذجات...
يبدو أنك لم تعيّن حديثي لك في وقت مضى حينما قلت لك أني لن أسمح لأحد أن يتدخل في هذا البيت ولو بمجرد رأي.

لقد جائني ابنك سعيد، وحاول أن بيدي رأيه ليثنيني عن قلع الشجرة ويخبرني أن البيت ليس بحاجة لأعمال ترميم، فلم يكن مني إلا أن قلت له كلمة واحدة:
من تكون أنت لتبدي مجرد رأيك في أمور بيتي.

غاد ياسر المكان ليواصل جلوسه مع عمال الهدم والتكسير ويباشر أعمال الترميم. أخذ خالد يواسي أمه التي طعنها ياسر بكلماته الجارحة، فلم يقدره قدرها، ولم يحترم كبر سنها، وهي التي تعبت عليه السنين لكنها لم يبادلها الإحسان بالإحسان، بل أصابها بسهام النسيان والنكران.
أخذ خالد يمسح دموع أمه الجارية كفيض أنهار لا تتوقف، كانت شهقات الجرح الفجيع وزفرات الألم الهجيع تغتال روحها الحزينة.
جلس خالد يحدث نفسه:
هذه أولى سهام خالد بعد أن نال أول أهدافه المتمثلة في تمكنه بالحصول على الوكالة، بدأ بترميم البيت وهو لا يحتاج لترميم أو خلاف ذلك.
بدأ بتبديد أموالنا...وإضاعة ميراثنا...
نحن الآن في نظره بعد نيله التوكيل
مجرد بهائم تركب...
مجرد أبقار تحلب...
بناء العقول يا ياسر هو ما تحتاجه نفسك، وليس ترميم أو تزيين أو تجميل للحقول.
أنت تريد إزالة آثار بيتنا الجملية...
أنت تريد محو معالم بيتنا الجميلة...
لتبني إمبراطورية تسلطك على الآخرين...
إمبراطورية استبدادك للآخرين...
إمبراطورية امتلاكك للآخرين...
تريد بنائها بملامح جديدة على أنقاض ملامحها الأصيلة...

هيهات لك يا ياسر أن يكون لك ذلك...
أقسم لك أيتها الأم النبيلة...
أقسم لك أيتها الأم الطيبة...
أقسم لك أن ذاكرتي ستبقى مسجلةً لكل جرائم انتهاكاته في حقك وحقي وحق اخوتي جميعهم...ذكورهم وإناثهم...
أقسم لك يا أماه أنه سيأتي ذلك اليوم الذي أرد له صفعات الماضي بكل أحزانه...
بكل جراحه...بكل مآسيه...بكل تورماته...بكل التهاباته...بكل تشوهاته التي رسمها على وجوه الجميع.
 


السبت، 12 مايو 2012

تجاعيدُ زمان وروحُ إنسان

مساء الأمس، أزفت خيوط النهار على التمزق شيئًا فشيء إيذانًا برحيلها فذابت في عتمة المساء. كان لدي متسعٌ من الوقت لقضاء بعض الأشغال، إنتهزت فرصة الفراغ التي لدي للذهاب لأحد الأسواق في مدينة الرياض وذلك لغرض شراء بعض الحاجيات فقصدت أحد محلات العطور.


خرجت من البيت وركبت سيارتي ثم مضيت في طريقي، أثناء إنتظاري عند أحد إشارات السير، لمحت سيارةً بجانبي كان يقودها شابٌ كان إلى جانبه في المقعد المجاور له إمرأةٌ مسنة بدى من وجهها أنها في العقد السابع من عمرها تقريبًا، لفت نظري منظر الشاب وهو منشغل بتعديل كرسي الجلوس لتلك المرأة، كان يعاود تعديله بشكل متكرر حتى أنه لم يكن منتبهًا لإشارة السير عما إذا كانت قد أضاءت بالضوء الأخضر إلا عندما سمع صوت مقود السيارة التي ورائه فهم بعدها بمواصلة طريقه.


دفعني الفضول بالمُضيّ خلف سيارة ذلك الشاب ومن باب المصادفة كان مكان المحل الذي كنت أقصده يقع على نفس خط الطريق الذي سار عليه ذلك الشاب. في أثناء سيري خلف السيارة توقف الشاب فجأةً عند أحد المحلات الخاصة بالزينة والعطور فوجدتها فرصة لدخول ذلك المحل وقلت في نفسي: لا مشكلة، سوف أرى بضاعة هذا المحل وإن لم تعجبني فالمحل الذي أقصده قريبٌ منه وسأذهب إليه إن أجد شيئًا فيه يستحق الشراء.


إنتظرت داخل سيارتي لكي لا ألتفت نظر الشاب الذي كنت أسيرُ نحوه، فجلست أحدق لسويعات قليلة فيه وهو يترجل من سيارته حاملًا بيده عصا ثم ذهب صوب باب مقعد جلوس تلك المرأة المسنة ففتح لها الباب في موقف يدل على الإحترام والتقدير ومن ثم ناولها تلك العصا وثم أخذ يسير معها بكل تؤدة وهدوء حتى دخلا للمحل.


نزلت من سيارتي ودخلت بدوري للمحل، بدأت أقتفي أثر الشاب والمرأة العجوز وأخذت ألتفت في جنبات المكان، تهادى لسمعي صوت رجل وما أن نظرت لمصدر الصوت فكان هو ذلك الشاب واقفًا يتحدث مع أحد العاملين. إقتربت قليلًا وتظاهرت برؤية بعض البضائع الموجودة على الرفوف ورميت بأطراف سمعي صوب الشاب والمرأة العجوز التي كانت جالسة على أحد المقاعد وقد أطبق الهدوء المسرف عليها فكانت غارقة في صمتها وكذلك هو حالة عصاتها التي شاركتها سكونها بإستثناء عينيها التي ظلت جاحظةً بشكل جميل فكانت جفونها غارقة بين تجاعيد وجهها العفوي.




جلست أنظر من طرف خفي لمنظر الشاب وهو يأخذ علبة مكياج من عامل المحل فيتجه بها صوب تلك المرأة التي عرفت أنها والدته بعدما ظننت أنها قريبةٌ له في بادئ الأمر، فجعل يأخذ علبة مستحضر تجميل ويفتحها ثم أمسك بريشة حُمرة الخدود ويجربها على خد أمها، جلس يسألها بقوله: ما رأيك يا أمي هل ترين هذا اللون مناسب لك وهي لا لم تنبس ببنت شفه فلم أسمع منها سوى كلمات عامية بسيطة مثل:
((زين ماشي حاله...ما عليه قصور يا ولدي)) ثم ما تلبث أن تبتسم إبتسامةً شاردة، أعاد الشاب علبة الزينة وذهب وتناول عطرًا من رفة العرض وعاد لأمه ثانيةً فأخذ يبُخ على يدها ويسألها: كيف ترين رائحته يا أمي هل أعجبك؟ فجاوبته بنفس الكلمات ونفس الإبتسامات، في المقابل كانت ملامحُ الإستغراب مرتمسة على وجه عامل المحل وهو يراقب ذهاب ومن ثم عودة الشاب من رفوف العرض إلى والدته، ربما لاحظ أنها إمرأة عجوز
فأثارت تصرفات الشاب إستغرابه.


خرج الشاب مع أمه من المحل حاملًا أكياس الأشياء التي قام بشرائها، جاء عندي عامل المحل وأخذ يسألني ويستفسر مني عما إذا كنت بحاجة لمساعدته في الإستفسار عن منتج لديهم، فبادرته بالسؤال عن قيمة الأشياء التي قام ذلك الشاب بشرائها فأخبرني أن قيمة ما إشتراه بلغت ثلاثة آلاف ريال مابين عطور وأدوات تجميل!! كانت الدهشة قد ملئت عيناي فحبست مقلتيّ دموع التأثر على موقف ذلك الشاب الوفي والنبيل تجاه أمه العجوز، فعرفت أن القيمة لوحدها كانت خير مترجم لمعنى الإهتمام العظيم بأمه إبتداءًا من تعديله لمقعد جلوسها ومرورًا بمباشرته بأخذ العطور وأدوات الزينة وأخذ رأيها عنها وإنتهاءًا بالقيمة الباهظة التي دفعها.


خرجت من المحل ترافقني دموع الغصة النفسية من الموقف المخلص والفعل الإنساني لذلك الشاب تجاه أمه فدعوت الله تعالى أن يوفقنا لمثل فعله وعمله لنوفي ولو نزرًا قليلًا من حقوق أمهاتنا علينا.

*كثيرةٌ هي تلك الأشياء البسيطة جدًا في كينونتها فنغفل كثيرًا عن التفكير فيها وممارستها تجاه أمهاتنا وهي قد لا تكلفنا أي عناء لكن وقعها وأثرها في نفوسهم
يعني لهم الكثير جدًا والوفير جدًا.
سعود المحمود

الأربعاء، 2 مايو 2012

التسلط الذكوري في الأسرة السعودية


موضوع التسلط الأسري الذي تعيشه-بعض أو كثير-من الأسر في مجتمعنا السعودي يجعلنا أمام معضلة كبرى تستدعي شحذ الهمم للحيلولة دون تفاقمها مع قادم السنوات. لعلنا حينما نتعمق باحثين عن ماهية التسلط الأسري وتعريفه بالتحديد فقد نجد أنه محصور في جانب الرجل وليس في جانب المرأة وذلك لدور القوامة الذي خصه به الإسلام الحنيف.


التسلط الأسري له أشكال مختلفة كحرمان المرأة المطلقة من حق حضانة الأبناء، ففي هذه الحالة قد لا تملك المطلقة أسباب الحول والقوة في رد حق من حقوقها وتكون الغلبة لزوج لم يراعي حق الله تعالى في زوجته فركن لقوته ونفوذه الخاص فتحرم بالتالي من حق الحضانة الذي كفله لها الشرع المطهر.في الفترة الأخيرة أصبحنا نسمع حالات الإعتداء على الوالدين من خلال الضرب وفي أحيان أخرى تصل للقتل من خلال الأخبار التي نطالعها في الصحف والإنترنت، دومًا نقرأ أن حالات التعدي على الوالدين يقوم بها رجال وليس نساء ولعل يكون في ذلك إشارة ودلالة لتسمية أن من يلعب دور المتسلط في الجانب الأسري هو الرجل.


 تلك الحالات التي نقرأ، نسمع عنها وفي أحيان أخرى نعايشها وهي رغم أنها قد تعتبر قليلة في المجتمع ولا تمثله لكنها في نهاية المطاف تعتبر جزءًا ونسيجًا من نسيج المجتمع لا يمكننا فصله في حال أو أخرى، فالحالات الفردية عندما تبدأ بالتنامي دون تسليط الضوء عليها والإعتراف بوجودها فإنها تصبح مع الأيام ظواهر إجتماعية ترتسم على جبين المجتمع عندما لا يتم منحها الحق الكافي من الإشباع النقاشي.
لعل أكثر الحالات التي تعبر عن وجود تسلط أسري يكون أحد أسبابها تعاطي المخدرات بين أفراد الأسرة متمثلًا ذلك في الزوج أو الإبن فينعكس بالتالي أثر المخدرات الخطير على محيط الأسرة. إنتشار المخدرات في محيط الأسرة عندما يقابله غياب الوازع الديني الذي يقوم بحماية وصيانة الفرد من الإنزلاق في مسالك الرذيلة فإن الباب يكون مفتوحًا لنرى أشكال خطيرة من التسلط الأسري وقد تصل للإعتداء على الزوجة أو الأولاد.



الوالدان يعتبران اللبنتان الأساسية في تشكيل ملامح ومعالم الأسرة، فعندما يقوم أحد الوالدين أو كلاهما بتفضيل غير مبرر للذكر على الأنثى داخل محيط العائلة وفي الوقت نفسه يكون ذلك التفضيل غير مبني على ضوء تعاليم الإسلام السمحة ستكون النتائج سلبية في نفوس الإناث. عندما يفرط الوالدين أو أحدهما بالتصريح اللفظي أو السلوك الفعلي الدائم أمام الأبناء بأن إبنه أحب إليه من إبنته أو العكس وقد تختلف أشكال الممارسة التفضيلية عند الآباء والأمهات فإن ذلك لاشك أنه سينعكس سلبًا وتتنامى المشاعر السلبية والتي قد تتطور لأحقاد طبقية في نفوس البنات أو الأبناء مع تعاقب السنين مما قد يترتب عليه وضع بنية لتسلط أسري مستقبلي وهنا يلقى باللائمة أولًا وأخيرًا على الوالدين.



أحد أشكال التنشئة التي تنذر بحدوث تطور سلبي في علاقات الأسرة هو أن يكون لدى أحد الأبناء علاقات محرمة شرعيًا فيعلم بذلك الوالدين أو أحدهم فلا يقوم بعلاج فوري لازم للأمر وقد تتوالد في المقابل ظنون الشك لدى الأم تجاه البنات، وفي أحيان قد تهون الأم من ذلك الشأن وتعتبر واقع وجود علاقات نسائية لإبنها أمرًا عاديًا لا يمثل خدش في خلقه ونقصه في دينه، فتنظر للأمر من عُرف إجتماعي وتحت مطية العادات والتقاليد البحتة بعيدًا عن ميزان الشريعة وتحت المقولة العامية-الرجل لا يعيبه شيء-وفي مقابل ذلك قد يتحمل البنات نظرات شكوك قد تنشأ لدى الأم أو الأب أو كلاهما.

سعود المحمود

الجمعة، 23 مارس 2012

الإدارة الفردية والذاكرة الجمعية

في الغالب تعتمد الإدارة الفردية على مبدأ تضخيم الذات فتنشأ حولها زخمًا من السرديات المتضاربة وربما المتناقضة لتخلق هالة لها شبه قدسية وحصانة تدعمها الصورة، الصوت،الخطاب والقرار لتخلق حالة رمزية تستحضر من أجل تثبيتها في الذاكرة الجمعية للمتلقي المتجسد في شخص الموظف كعامل يردع التشكيكات أو التساؤلات حول شخصية المدير الفردي وسياسته فتتحول عملية التضخيم إلى غطاء تختبئ تحته زلات البشر ونقصهم وضعفهم وسوء تدبيرهم للشأن الإداري العام للمنشأة والشركة.كلما زادت سياسة التسلط والتطفيش والبحث عن الأخطاء عند الموظفين في إطار الإدارة الفردية كلما زادت الأصوات المؤيدة من فئة مستفيدة لذلك المسؤول الإداري والتي قد تخرج لحد المداهنة والنفاق فتكون بعيدة عن الطبيعة البشرية فتتحول لتنظيم المديح والإطراء في شخصه.

الإمبراطوريات العظمى والتي كانت سائدة في وقت مضى من التاريخ، كانت في مجملها إمبراطوريات فردية التصرف آحاديه النظرة، فكانت قائمة على الشكل الفردي وليس النسيج الجماعي، كانت تلك الإمبراطوريات العظيمة في الزاد والعتاد لا تمثل أحلام،تطلعات وطموحات الفئام من الساكنين فيها، بل كانت تعتمد على الأفراد والأشخاص الفرديين الذين لم ينظروا لحال الجماعة في جميع الأحوال.

الإدارة الفردية حينما تصل لسدة أي منشأة تحرص على زيادة أعداد الجماهير وتوظيف الأحباب وضم الأصحاب وتقريب الأقارب وكلهم في النهاية يعتبرون محسوبين على المدير الفردي الذين عينهم لغرض أن يهتفوا بإسمه فيضفون لتلك الإدارة الفردية مظهر القوة الجماعية.أي منشأة يكون فيها الصوت الفردي حاضرًا وصارخًا في جميع حالات وأحواله فإنها بلاشك سوف لن تصل للنتائج المرجوة دومًا من تنمية معنى العمل الجماعي وروح الفريق الواحد والعمل على كسر الجمود والشللية بين طاقم الفريق العملي،فلأجل ذلك ستحتاج كل منشأة أن تنمي تعظيم الذات والشخص في نفس كل موظف ومنسوب لديها ليترتب على ذلك تعزيز الثقة في نفسه وتنمية القدرات الخاصة به مما سينعكس على أداءه الذي سيصب في النهاية لصالح المنشأة العامة ككل....سعود المحمود

الاثنين، 12 مارس 2012

لقـاءٌ عابر ويومٌ ماطر


ذات يوم بدت سماء مدينة الرياض ملبدة بالغيوم ، في ذلك الوقت كان سعيد جالسًا في المقهى المقارب لبيته ، لقد أصابت برودة الطقس فنجان قهوته فأضحت باردة. فجأة سقط فنجان القهوة أرضًا فتناثرت قطع زجاجه وإنسكب مزيج القهوة على طاولة الجلوس!! باغت صوت الرعد مسامع سعيد فتلعثمت نفسه على أثر ذلك الصوت فإنسل من بين يديه فنجان القهوة فسقط منه. جاء نادل المقهى مُسرعًا نحو الطاولة يجر معه خطواته المتسابقة بعد سماع ضجيج الإنكسار الذي سمعه ، نظر النادل لمشهد أجزاء الفنجان المكسور والقهوة المسكوبة ، هنا نظر النادل لسعيد الذي إرتسمت عليه علامات الإستحياء والخجل لقاء ما جرى ، فأخذ سعيد يوجه كلامه للنادل فقال: أعتذر عما حصل ، سوف أقوم بدفع قيمة الفنجان أيها النادل.

فرد النادل مجيبًا بقوله: لا مشكلة يا صديقي سعيد ، لا تأبه بشأن ما حصل ، فقط تفاجأت من صوت الإنكسار فقدمت ، لا شيء يستحق الذكر ، سأقوم بجلب فنجان قهوة جديد لك عوضًا عن الذي سكب.

رد سعيد بقوله: أشكرك على لطفك يا صديقي لكن لا داعي لذلك ، سوف أمضي الآن للبيت ، يبدو أن السماء ستمطر بعد قليل ، أراك لاحقًا يا صديقي.





خرج سعيد حاملًا معه دفتره وقلمه متجهًا نحو سيارته ، فتح باب سيارته وبدأ بتشغيلها ، لقد كانت زجاج السيارة باردة فإنتظر سعيد لسويعات قليلة حتى يستعيد المحرك شيئًا من حرارته. مضى سعيد في طريقه نحو البيت فتوقف قليلًا عند الإشارة ، كانت هناك سيارة تقف بجانبه يجلس فيها طفلٌ صغير فأخذ بالتبسم في وجه سعيد، كان يمرر أنامله على زجاج النافذة يرسم عليها رسومات وزخارف ، هنا أضاءت الإشارة اللون الأخضر

فواصل سعيد طريقه نحو المنزل.





إشتد هطول المطر فأخذ يتساقط بغزارة ، بدأ الضباب يتشكل على زجاج السيارة وإنعدمت الرؤية حينها فلم يقدر سعيد على المواصلة فسلك شارعًا عند مدخل الحي الذي يقطن فيه فركن سيارته وإنتظر ريثما تخف وطأة هطول المطر. في أثناء لحظات الإنتظار أخذ سعيد يمسح بقع الضباب الجاثمة على صدر زجاج السيارة ، في ذلك الحين توقف هطول المطر ولفت نظر سعيد وجود سيارة متعطلة واقفة  على مقربة منه فمضى نحوها ليرى ما هو الأمر.لقد كانت عجلة السيارة عالقة في حفرة فكانت منشطرة كليًا و كان السائق يحاول عبثًا إصلاحها.إقترب سعيد من السائق وأخذ يسأله عما إذا كان لديه عجلة بديلة وفي أثناء حديث سعيد مع السائق فُتحت نافذة السيارة وأخذ يصدر منه صوت منادي يقول: هل هذا أنت يا سعيد!!

إلتفت سعيد للوراء وكانت صاحب الصوت إمرأة ، هذه أنتي يا تهاني!! إنها لصدفة جميلة.

فأخذت تهاني تقول: بالفعل هي كذلك ، لكن ما الذي أتى بك إلى هنا؟

سعيد: لقد كنت عائدًا للبيت فتوقفت قليلًا عندما ريثما يخف هطول المطر ، لكن الآن ماذا بشأن السيارة ينبغي أن نصلحها.

تهاني: لقد إتصلت بالبيت لأخبر أمي أن السيارة قد تعطلت لكنها لم تجبني وسأضطر للإنتظار قليلًا.

سعيد: حسنًا يمكنني إيصالكم للبيت ، فلترافقيني أنت والسائق.

تهاني: اممم أخشى أن ترانا أمي وحينها ستحدث مشكلة وتتصل بأمك ويحصل ما لا نريد حدوثه يا سعيد.

سعيد: لا تقلقي سأتبدر الأمر ، ولن تلاحظ أني أرجعتكم للبيت.



 

أوصل سعيد السائق وتهاني للمنزل ، عندما همت بالنزول أخذت تهاني تقول: لقد كانت صدفة طيبة أن إلتقينا.

سعيد: هي كذلك بالفعل يا تهاني ، والأجمل من ذلك  أنها جاءت بشكل عفوي دون ميعاد يُذكر.

تهاني: شكرًا جزيلًا لك يا سعيد.

سعيد: لا داعي للشكر يا إبنت العم العزيزة.

عاد سعيد في طريقه متجهًا نحو البيت وفجأة رن صوت هاتفه النقال!! لقد كان صوت رسالة واردة لهاتفه ، لقد كانت الرسالة قادمة من تهاني فكانت مكتوبًا فيها: لقد نسيت أن أرجع لك معطفك الذي أعطيتني إياه ، سأعيده لك لاحقًا مع السائق أيها العزيز.

فرد سعيد برسالة جوابية لها: يمكنكي الإحتفاظ به أيتها النبيلة ، لكن هل بإمكاني أن أحتفظ بقارورة العطر التي نسيتها في سيارتي؟

سعود المحمود


الكعكة وحبة التوت والطفل الصغير



كان هناك بيت يسكن فيه زوجين،ثلاثة أبناء،خادمة،سائق وبستاني.ذات صباح استيقظ الطفل الصغير فوجد رسالة من والديه كُتب فيها: إبننا العزيز، لقد ذهبنا لقضاء بعض الأشغال وأعددنا لك ولإخوتك كعكة لذيذة، لقد قمنا برسم ثلاثة خطوط على الكعكة لكم تمثل حصة كل واحدٍ بالتساوي، فلا يلزم الأمر أن تتشاجروا أثناء غيابنا، أنت طفلٌ مهذب كما عهدناك وتسمع الكلام ولن تخلق الفوضى،،،مع محبتنا لك/والداك.

مزق الطفل الورقة بعد قرائتها وألقى بها في سلة المهملات ومضى ذاهبًا نحو صالة المنزل، فوجد هناك أخويه جالسين على طاولة الطعام والكعكة أمامهم.لاحظ الطفل أن خطوط القسمة قد اختلفت عما ذكره له أبويه في الرسالة، فكان هناك ستة خطوط مرسومة على سطح الكعكة، هنا سأل الطفل أخويه قائلًا لهما: أبي وأمي حددا خطوط القسمة بثلاثة خطوط فلماذا تغيرت لستة؟
فأجاب الأخوين: كيف ذلك، وما هو الدليل على صحة كلامك؟
رد الطفل قائلًا: لقد ذكرا لي ذلك في رسالة!
فعقب الأخوين: إذن أحضر لنا تلك الرسالة إن كنت صادقًا فيما تقول؟
هنا تذكر الطفل أنه مزق الرسالة! وسيتحتم عليه الرجوع لسلة المهملات لتجميع أجزائها ليصدُق أمام أخويه.ذهب الطفل على الفور وقام بتجميع أجزاء الرسالة وألصقها بعضها ببعض.

جاء الطفل بالرسالة لكي يطلع عليها أخويه ويصدقان كلامه، تمعن الأخوين في الرسالة وقال لأخيهم: ماذا يثبت لنا أن الرسالة صحيحة، هي ممزقة وهذا يفتح مجال لنا للشك في صحتها، فما دامت أجزائها مُجمعة فهذا لا يضفي عليها صدقية تذكر، إذن دليلك غير كافي لنصدقك.
رد الطفل قائلًا: حسنًا، لنفترض أني كاذب فما هي حجتكما في كون خطوط الكعكة مقسمة لستة أجزاء؟
أجاب الأخوين: الأمر سهلٌ جدًا، أبي وأمي لم يخبرانا بأمر التقسيم، لكن ظاهر الأمر يعني أنا الحصص مقسمة كالتالي: قطعة لك،قطعتين لنا،واحدة للخادمة،أخرى للبستاني والأخيرة للسائق.ستُ قطع لستة أشخاص!
رد الطفل معقبًا: وماذا يثبت لي صحة وصدق كلامكما؟
فأجاب الأخوين: حسنًا، اذهب للخادمة ثم للبستاني ثم للسائق واسألهم فربما يكون كلامك صحيحًا فنوفر حصص الكعكة وبالتالي يزداد نصيبنا منها.

ذهب الطفل نحو المطبخ ليسأل الخادمة عما لو كان لها نصيب من الكعكة أم لا! لكنه لم يجدها، بعد ذلك توجه للسائق وكذلك لم يجده ونفس الأمر تكرر مع الطفل بالنسبة للبستاني حيث لم يجده.هنا جلس الطفل يتسائل في نفسه قائلًا: رسالة أبي وأمي واضحةٌ بالنسبة لي ولا لبس فيها، خطوط التقسيم ثلاثة فلم أحاول عبثًا أن أقنع نفسي أنها ستة!! فعاد الطفل سريعًا لصالة الطعام وعند عودته تفاجأ بإختفاء الكعكة ولم يجد سوى حبة توت موجودة على الصحن وبجانبها رسالة كُتب فيها: أخانا العزيز، لقد ذهبنا لنسأل الخادمة،البستاني والسائق عما إذا كان لهم نصيبٌ من الكعكة أم لا، لا تمزق هذه الرسالة واحفظها لكي تكون دليلًا على أننا كنا نحمي الكعكة في حال إختفائها أو سرقتها أثناء غيابنا.......سعود المحمود

٢٠عام و٧٢٠٠دلة قهوة و٧٢٠٠آنية تمر



في أحد جوامع مدينة الرياض،وبعد الفراغ من صلاة مغرب كل يوم،ينفض المصلون بعد أدائهم للصلاة وانتهائهم من ذكر الله عز وجل والاستغفار والتسبيح له،فيتجه كل شخص إما لعمله أو أهله أو قضاء سائر شؤون الحياة.يا فلان تعال..يافلان اقترب..يا فلان أقبل..كان ذلك نداء العم عبدالله المبارك يدعو فيه المصلين لمشاركته في شرب القهوة وأكل الرطب.فقد دأب ذلك الشيخ العجوز الطيب بعد أن ينتهي صلاة المغرب من كل يوم على جلب القهوة والتمر والجلوس في المسجد ودعوة صحبه وجيرانه على مدى عشرين سنة لم ينقطع خلاله عن تلك العادة والتي ضرب من خلالها أجمل دروس الكرم وأروع ضروب السخاء وأبلغ صنوف العطاء.كان يأتي أصحاب الشيخ العجوز ورفقائه ليشاركوه مذاق الجلسة ونكهة الجمعة بحضور فتى يدعى سعيد،فكان يباشر مهام صب القهوة ومناولة التمر للحاضرين.

في أحد المرات جاء رجل من الجنسية العربية،فكان عابر سبيل فأدى صلاة مغرب ذلك اليوم في ذلك المسجد،هنا جلس العم عبدالله ينادي الرجل للحضور لجلسته،بعد أن هم الرجل بالقعود طلب العم عبدالله من سعيد تقريب آنية التمر للرجل وصب فنجان قهوة له،ففعل سعيد ما أمره العمل عبدالله بالقيام به.انتهى الرجل من تناول التمر وشرب القهوة ثم بدأ بالاستئذان من العم عبدالله لكي ينصرف لشأنه وذلك بعد أن وجه له شكره على جميل الضيافة ونبيل الحفاوة التي لقيها منه.هنا تحدث العم عبدالله قائلًا لرجل:إن كنت تُحبني فخذ فنجان قهوة أخير فقط..أخير فقط و حبة تمر أخيرة فقط..أخيرة فقط!!
فما كان من الرجل إلا أن أحس بالحرج والحياء من ذلك الشيخ العجوز الكريم،فأجابه بالقبول والموافقة،فصب سعيد للرجل فنجان القهوة وقدم له حبة التمر.

٢٠عامًا و٧٢٠٠دلة و٧٢٠٠آنية تمر موزعة على أيام عشرين سنة كانت تُمثل وتجسد كرم ذلك الشيخ العجوز،
فكم هي الحسنات التي سوف تجري له؟
وكم هي الثوابات التي ستتدفق له؟
وكم هم الأشخاص الذين سيقتدون بفعله؟
وكم هي الدعوات التي سترفع لله تعالى لأجله؟
فعلٌ بسيط مستمر سيجازي به الله عز وجل ما لا يعجز المرء عن مجرد تخيله.....سعود المحمود

قدح شاي واعتراف عابر




في ظهيرة أحد الأيام،وتحت ظلال أوراق العمل وعراك المهام والمعاملات، ذهبت لمطبخ عامل الشركة لجلب قدحٍ من الشاي.كان العامل جالسًا مع رفقائه الآخرين من مختلف الجنسيات الآسيوية،كانوا على وشك البدء لتناول وجبة الغداء الخاصة بهم.أثناء انشغالهم بالطعام والذي كان عبارة عن مأكولات مُعدة حسب طريقة كل بلد ينتمي لها ذلك العامل ورفقائه،هممت بأخذ الكوب واعداد الشاي بشكل سريع،هنا نظر لي أحدهم ودعاني للمشاركة في تناول طعامهم،فلبيت دعوته وتناولت شيئًا من طعامهم ثم شكرته بدوري على دعوته.جلس العامل ينظر لي لسويعات بعد توقفه لبرهة عن الأكل،فقال لي: منذ وقت طويل لم أرى شخصًا يلبي دعوتنا لتناول الأكل فهذا الأمر يجلب لنا السعادة الداخلية في نفوسنا.لم أجد أنسب من ابتسامة عابرة في وقت تبعثرت الكلمات من على لساني لأجيبه اجابة مُعبرة.

كثيرةٌ هي تلك اليقينيات التي نكذب بها على أنفسنا حينما ندعي أننا مسلمون حق الاسلام ،وأننا وصلنا لأعلى درجات المعرفة والادراك بديننا الاسلامي الشامل،فلم نطبق أخلاق الاسلام والتعامل المحمدي لنبينا صلى الله عليه وسلم،فننزع النظرة الدونية والشعور الفوقي تجاه مسلمين هم من غير جلدتنا العربية،فيكون هناك تناقض في كثير من التعامل معهم،لفقرهم،بساطتهم،طبيعة عملهم وحُجج من قبلنا لو أمعنا قليلًا لوجدنا فيها غاية التناقض عن ما أوصانا به نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بالتحلي به.....سعود المحمود

الحروف الساقطة والورود الناطقة



ذات صباح حيث الهواء كان يشكو لحاله برودة الجو لينطق به عبر صوت هبوبه الهادئ في تلك اللحظة، كان سعيد يمضي بسيارته يرافقه كوب قهوته السوداء والتي كان يطفو على وجهها بياض السكر الذابل الهائم على نفسه بين مزيجها. كان هناك متسع من الوقت قبل ذهابه للعمل لبدء نشاط يوم جديد. توقف حلق السيارة عن الأنين ليصمت عن الكلام لسويعات قليلة فترجل سعيد وأخذ يمشي لحديقة كانت قريبة من الجوار، نزل حاملاً كوب قهوته التي أوشكت على البرود، لقد ذاب السكر في أحشائها لكنه ما يزال دون تحريك،
حمل معه دفتر كتابة قديماً وأثناء مشيه نحو كرسي كان جامداً وسط تلك الحديقة ليجلس عليه، رأى سعيد ورقات شجر كانت تمشي على الأرض!! كانت تدفعها تغاريد ضحكات طفل كانت صادرة من الطرف الآخر من الحديقة وفجأة بينما كان يتتبع مصدر ذلك الصوت سقطت من دفتره دون أن يشعر حروف كلام وأحاديث قديمة فتهاوت للأسفل فدوى رنين سقوطها مسامع أذن الماضي الذي تشظت أيامه وذكرياته!!

كانت العائلتان ذات يوم ذاهبتين لقضاء نزهة مع أطفالهما في الحديقة، كانت تهاني وسعيد يتسابقان الخُطا للعب على أراجيح منصوبة وسط باحة تكسوها الرمال والحجارة، فسبقت تهاني سعيد فركبت على الأرجوحة وأخذت تقول له: سبقتك بالركوب يا سعيد، إذن ينبغي عليك الانتظار وأن تدفعني لأني لن أستطيع دفع نفسي.
فأجابها سعيد : لا ادفعي بنفسك ريثما أعود إليك يا تهاني.
فردت تهاني قائلة: إلى أين أنت ذاهب؟
عاد سعيد لتهاني فقال لها: أغمضي عينيك يا تهاني؟
فقالت له: لا تخفني يا سعيد فأنا أخاف من إغماضة العين!
سعيد: لا تخافي، فقط أغمضي عينيك.
تهاني: حسناً ها أنا قد أغضمت عينيّ.
سعيد: الآن افتحي عينيك يا تهاني.
تهاني: أوووه إنها جميلة!! هل هذه لي يا سعيد؟
سعيد: نعم هذه الوردة لك، لقد قطفتها من أجلك.
تهاني: شكراً لك، تعال لقد سمعت أننا حينما نكبر سوف يكون لدينا الكثير من باقات الورود.
سعيد: طبعاً فدوماً ما أرى العروسين حينما يتزوجان يُهدى إليهم أكاليل من الورود.
فجأة تفجرت ورقات الوردة فزعاً من صوت صراخ قادم كان ضجيجه يقول: تهاني تهاني تعالي هيا سوف نذهب للبيت تعالي هيا!!
أمي لماذا سوف نعود فنحن للتو جئنا؟
فقالت الأم لتهاني: لن نأتي مرة ثانية هل تسمعين الكلام، ما هذه الوردة القبيحة التي في يدك، ألقي بها أرضاً، فأمسكت الأم بيد تهاني وأخذت تسير بها عائدتين لبيتهم والتي بدورها رمت لسعيد بدموع انطبعت على قلب ورقات تلك الوردة الملقاة على ناصية رصيف الحديقة.

أرخى سعيد ظهره وألقى بأنامل يده ليجمع حروف دفتره التي سقطت على الأرض أثناء مشيه فقام بنفض الغبار عنها وأعادها لأدراج سطورها بين الورق. تابع سعيد سيره متتبعاً لمصدر صوت ذلك الطفل الذي كانت ضحكاته تجوب في مسامعه فاقترب أكثر وألقى بنظرة متخفية خلف بُرقع عينيه صوب الطفل الضاحك، رأى سعيد طفلاً كان يعتلي أرجوحة وامرأة من خلفه تقوم بدفعه وكانت تقول له: هل اكتفيت يا سعيد من اللعب الآن لقد أوشك باص المدرسة على القدوم؟
فكان الطفل يجيبها: لا يا أمي ما زلت أريد اللعب؟
فقالت له: حسناً لديك دقائق معدودة ريثما يأتي السائق لنذهب للمدرسة.
هنا توجه سعيد صوب تلك المرأة وطفلها وقال: كيف حالك يا تهاني؟
فدُهشت تهاني من هول المصادفة التي لم تتوقعها فأخذت تقول: سعيد كيف جئت إلى هنا؟
فرد سعيد: لقد كنت مارّاً بالجوار فغالباً ما آتي هنا للمشي على أطلال ذكريات سالفة، لكن ما الذي أتى بك أنت؟ ما أعلمه أنك تسكنين في حي آخر فهل انتقلت للعيش بجوار بيت أسرتك؟
تهاني: لا بل عدت حديثاً للمكوث في بيت أهلي، ربما لم تعلم أني انفصلت عن زوجي السابق.
سعيد: لا لم أعلم بحقيقة هذا الأمر يا تهاني. هذا هو إذاً ابنك سعيد أليس كذلك؟
تهاني: نعم هو ابني وأسميته سعيد.
سعيد: هل تذكرين حينما كنا نأتي في صغرنا لهذه الحديقة؟
تهاني: وكيف لي أن أنسى ذكريات جميلة لا تُنسى، كان أهلي حينها يقولون إني سأكون عروسك، لكن ربما كان في الأمر خيرٌ لي ولك، فأمي ما زالت تقول: زواج الأقارب عقارب.
سعيد: ربما كان صحيحاً ما قالته أمك، لكننا أضحينا كعقارب الساعة فهي تماماً تلاحق بعضها بعضاً فتلتقي ثم تنفصل لتلاحق بعضها بعضاً مجدداً.
تهاني: حديث الذكريات لا ينتهي يا سعيد.
سعيد: بالفعل هو كذلك لا ينتهي حينما تستجلبه الذاكرة.
ذهب سعيد لسيارته مسرعاً وعاد حاملاً معه وردة ذابلة فأعطاها للطفل الذي بدا مسروراً بها، فأخذت تهاني تقول له: هل هذه نفس الوردة التي قذفت بها أمي وألقتها أرضاً.
فأجاب سعيد بقوله: ههه بالطبع ليست هي فتلك قد ذهبت أدراج الرياح لكن صورتها بقيت متشبثة في مخيلتك ومخيلتي.
هنا بدأ قلب سيارة السائق بالنبض المتعالي فكان ينادي الطفل ليذهب به للمدرسة، فقالت تهاني لسعيد: سوف أستأذن منك يا سعيد بالانصراف الآن سأرافق سعيد للمدرسة.
فرد سعيد بقوله: لنبقَ على تواصل يا تهاني.
تهاني: بالطبع سنبقى على تواصل على ضفاف نهر ذكريات الماضي وشاطئ الحاضر وأما المستقبل فلا ندري هل سيكون فيه التقاء......سعود المحمود


شجار عند خرير المياه



كان هناك شاب يسير خارجاً من قاعة الفندق بعد انتهاء اجتماع عمل كان حاضراً له. أثناء سيره كان صوت خرير مياه النافورة يحمل في ثناياه صدى مشاجرة بريئة! تسابق الشاب خطواته فوجد طفلاً وأخته الصغيرة يقفان عند بوابة إحدى القاعات فكان الطفل يُعنف أخته وكان ممسكًا بيدها وهي تحاول نزعها! فتوقف الشاب عندهما فأخذ يلقي التحية عليهما وأخذ يقول للطفل: لماذا هذا العراك بينكما؟
فأجاب الطفل قائلاً: لقد دخل أبي لهذه القاعة وطلب منا أن ننتظر قليلاً ونبقى هادئين ريثما يخرج، لكن أختي تصدر إزعاجاً فهي تريد أن تذهب لتلعب في الجوار ولقد نهيتها لكنها لا تطيعني.
فرد الشاب: أختك أصغر منك وأنت الكبير أليس كذلك؟
فأجاب الطفل: بلى.
فقال الشاب:هي لن تطيعك إذا لم تتحدث إليها بلغة رقيقة، افهم مشاعرها لتفهمك فأنت أخوها فينبغي أن تحتويها فتعطف عليها.
هنا أخرج الشاب حلوى كانت في جعبته فأعطاها للطفلين فهم الطفل بفتح قراطيس الحلوى فأعطاها لأخته وهي بدورها أعطته الحلوى الخاصة بها فبدت البسمة على محياهما فأخذا يضحكان على بقع الشوكولاته التي بقيت متشبثة على شفاههما والتي بدورها كانت تبتسم مع ابتسامة وحركة أفواههما، هنا التفت الطفلان يمنة ويسرة فلم يجدا الشاب فلم يسمعا غير صدى خطوات قدميه التي اختفت في شغاف صوت خرير مياه النافورة......سعود المحمود

نحن المعاقون ولست أنت




ذات يوم وفي أثناء عملي في معترك المجال المصرفي زارنا عميل في البنك،كان قد قصد البنك لغرض الحصول على قرض شخصي له. تقدم عندي وطلبت منه الجلوس، لحظات وأخرجت الأوراق الخاصة لغرض فتح حساب مصرفي له، فطلبت منه أوراقه وبياناته الشخصية كي أكتبها بالنيابة عنه، نظراً لأني رأيت أن ليس لديه يدان، فلم أدقق كثيراً هل كان قد وُلد من دون يدين أم أنهما كانتا مبتورتين لسبب ما. ما أن انتهيت من تعبئة الأوراق حتى حان موعد التوقيع على تلك النماذج المصرفية، هنا توقفت قليلاً لبرهة حيث إن هناك شروطاً معينة للعملاء من ذوي الاحتياجات الخاصة عندما يتطلب الأمر التوقيع على نماذج مصرفية كالأعمى والأمي وهكذا. استأذنت من الشخص قليلاً وذهبت لأحد الزملاء كي أستذكر الشروط اللازمة لمن يُطلب منهم التوقيع في مثل هذه الحالة، وما أن عدت نحو ذلك العميل حتى كانت المفاجأة التي لم تخطر في عقلي المحدود ورأيي المردود!! فرأيت أن ذلك الشاب قد وقع بالفعل على تلك الأوراق توقيعاً متطابقاً كليّاً لا يختلف أبداً حتى قيد أنملة، كانت الصفعة قوية بالنسبة لي عندما نظر لي نظرة رأيت من خلال تعمقي فيها أنها نظرة امتعاض فكيف لي أن أصدرت حكمي عليه بعدم قدرته على فعل شيء لم أسأله أنا شخصيّاً ما إذا كان هو قادراً على فعله أم لا؟ فركنت إلى فلسفتي وحكمي واجتهادي السقيم. جلست بكل هدوء بعد ذلك الموقف الصدامي وأخذت أسأله بتهكم وسخرية عن خلفيته بسوق الأسهم ومعرفته به ولم أستفد من السقطة الأولى حتى سقطت في وحل السقطة الثانية عندما بادرني بسيل معلوماتي جارف يقمع أي شيء يصادفه في طريقه فأخذ يسرد لي معلوماته بسوق الأسهم وخبرته بحركات البيع والشراء و و و.... فلم يذهب بعدُ أثر تلك الصفعة حتى بادرني بصفعته الثانية المدوية حينما حكمت مجدداً على جهله في جانب سابق وجانب لاحق من خلال مظهره الخارجي فخُيل لنفسي تخيُّلاً غير مبرر أن مجرد فقدانه ليديه أن ذلك يبرر لي أنه شخص جاهل عاجز فهو غير قادر على فعل شيء، مهلاً يا لك من أحمق أيها الكاتب!! لماذا أنا أحمق يا قلمي؟ أنت أحمق لأنك لم تمعن القراءة جيداً في بيانات الوظيفة الخاصة بذلك الشاب حيث إنه كان يعمل -ناسخ آلة كاتبة- فلو أمعنت في ذلك المسمى الوظيفي الخاص به لعرفت حقيقة جهلك في الحكم المبكر عليه!! نعم كنت أحمق يا صديقي. انتهى ذلك اللقاء السريع بيني وبين ذلك الشاب ومددت قلبي قبل يدي لمصافحته على تلك الدروس المجانية التي أعطاني إياها واعتذرت له عما بدر مني من جهل في حقه فبادرني بابتسامة وكلمات رائعة ووعدٍ باللقاء فأضحينا بعدها أصدقاء، في أثناء مغادرته للمكان تقدمت نحو المدخل الخاص بالبنك وجلست أتأمل منظر خروجه وتوجهه نحو سيارته، هنا أخرجت عدسة آلة التصوير الخاصة بي فالتقطت عيناي تلك الصور أثناء خروجه، فالتقطت صورة فتحه لباب سيارته وصورة تشغيله لسيارته وصورة وضعه للأوراق التي كانت بحوزته وآخر صورة هي قيادته لسيارته وهو لا يملك يدين لفعل تلك الأمور، كل تلك الصور سوف تلزم أي إنسان بلا شك في مشوار الحياة. انتهى وقت العمل في ذلك اليوم وتم إسدال الستار الخارجي للبنك في ذلك اليوم إيذاناً بنهاية يوم عمل، بدا الوقت جميلاً حينما غابت الشمس ولم يبقَ سوى بقية أطلال من تلك الظلال ، جاءني حارس الأمن كي يخبرني أن وقت الدوام انتهى فقلت له حسناً سأبقى لقليل من الوقت، توجهت صوب مكتبي وأخرجت ورقة كانت موجودة لدي واستللت قلمي فالجو كان مثيراً بل وغزيراً ومُلهماً للكتابة عن أحداث ذلك اليوم الحافل الذي عايشته حيث الهدوء الذي سكن جنبات المكان والصمت الذي خيم على أرجائه، أنهيت كتابة تلك الأحداث في ذلك اليوم وعندما هممت بالخروج من الباب وجدت تلك الورقة المثنية على طرف مكتبي فشدت انتباهي فلم ألاحظ وجودها في أثناء ترتيبي لمكتبي قبل الخروج، ذهبت ففتحتها ووجدت مكتوباً فيها قول الله عز وجل:-- فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور-- فكانت تلك الورقة بمثابة الرسالة التي وجهها لي ذلك الشاب بأسلوب بسيط كان يريد أن يفهمني أن المعاقين حقّاً هم أولئك الأسوياء الذين ماتت عقولهم وقلوبهم وأحاسيسهم تجاه ما يدور حولهم حتى وإن كانوا يملكون بقية مقومات الجسد البشري، شكراً لك يا صديقي فعلاً نحن المعاقون ولست أنت.....سعود المحمود


شرخ على جدار إخوة



ذات يوم اتصل الأخ الكبير بإخوته، استغرب كل فردٍ منهم نبضات ذلك الاتصال، حيث إنه كان الأول من نوعه على صعيد تواصل الإخوة فقال لهم أخوهم: سوف يكون اجتماعنا في بيت الوالدة دون أن يكشف عن أسباب أخرى لهم فشدد عليهم بالحرص على الحضور باكراً. مساء ذلك اليوم اجتمع الإخوة في بيت أبيهم بحضور والدتهم، كان ذلك الاجتماع هو الأول منذ سنين مضت على وفاة أبيهم حيث كانوا يجتمعون في الماضي عندما يحين موعد الغداء وفي أوقات العيد والمناسبات دون حضور حقيقي لمشاعر اهتمام وأحاسيس وئام متبادل تم تغييبها قسريّاً بفعل شخص آخر. بدأ الاجتماع وتحدث كبير الإخوة أمام إخوته لأول مرة، اعترف خلال ذلك اللقاء أن ثمة تباعداً وهوة شاسعة بين الجميع ارتسمت ملامحها خلال الاجتماع البارد في أحاسيسه والساخن في اعترافاته، أخذ الأخ الكبير يعترف بتقصيره ويسوق الاعتذارات على أخطاء لم يكن له يد ومرمى حجر في كثيرٍ منها فاعتذر عن أنه كان يتصل على إخوته دون أن يستشعر كلمة-كيف حالك أخي.. كيف حالكِ أختي- و تساءل متى كانت آخر مرة دعوتكم فيها لزيارة منزلي و و و الكثير من المكاشفات والاستجلابات التي ساقها لهم من بطن الذاكرة والتي جاءت متأخرة بعد وفاة قطار مشاعرها الذي حاد عن سكة حبال أولئك الإخوة، في الطرف الآخر من ذلك الاجتماع كان يجلس شاب كبير بقلب طفل صغير-هكذا كان يرى نفسه-كان يشاهد باهتمام بالغ لعروض وأحداث ذلك المسرح العائلي، لفت انتباه ذلك الولد ورقة كانت منزوية على استحياء تحت طرف الأريكة فتناولها وأخذ يحدق بالورقة بتركيز شديد فجلس يخاطبها قائلاً: أنت ورقة بيضاء ويجب أن تبقي كذلك حتى يتضح على جسدك الأبيض فأي صورة جميلة ترسم عليكِ دون ضباب غيوم أو كلمات تسطر على صدرك لتمد الآخرين بحليب صافٍ نقي خالٍ من السموم، فجأة ابتسمت الورقة في وجه ذلك الطفل، ربما رأى ذلك الطفل صورة جميلة عن الاجتماع الذي كان فيه أراد هو رسمها يوماً لكنه لم يكن يملك ريشة رسم وقتها، أو كلمات معبرة في أحاديث ذلك الاجتماع لكنه كذلك لم يكن يملك قلماً وقتها أيضاً أو حبراً صادقاً، و على حين غرة سمع الولد الصغير صوتاً مفزعاً ومخيفاً!! لقد كان صوت ذلك الابن المدلل الذي غيّب كل أصوات فكرت في الحديث فتكلم الابن المدلل مخاطباً أخاه الأكبر: ماذا لديك أيها الأخ من شيءٍ آخر تقوله غير الذي ذكرته؟ فعقب الأخ الكبير على سؤال الابن المدلل قائلاً: إذا كان لدى أي شخص منكم كلام يريد قوله فلا يتردد فهذا اجتماع مصارحة، هنا لم ينبس أحدٌ من الإخوة ببنت شفة ولم يسمعوا سوى رنين مزعج لصوت ذلك الابن المدلل الذي قال مختتماً مسرح ذلك الاجتماع: أهم شيءٍ أن تتوقفوا عن الحساسية المفرطة من قبلكم والمبالغ فيها لكي نهنأ في حياتنا!! في الطرف الآخر جلس الولد الصغير يتأمل ملامح أمه الحاضرة الغائبة عن أحداث ذلك الاجتماع فأخذ الولد يتأمل صدى تنهيدات صوتها الذي ارتسم على قسمات وجهها فأخذ يحلل ملامح صمتها الغارق في بحر تجاعيد خديها الناعمين وراحة يديها الدافئتين فكأن لسان عقل و حال تلك الأم يقول: قد أكون مخطئة أنا وزوجي حينما أفرطنا في تدليل ذلك الولد فمنحناه زمام التحكم في كل شيء فتصدر هو مقود القيادة بالنيابة عنا دون أن ندري، هنا مضى الابن المدلل في خطوات سيره نحو خشبة المسرح ليسدل عليه خيوط الستار ويقرأ عليه كلمات الختام وذهب عائداً متجهاً نحو زوجته وبيته مخلفاً وراءه غبار وتراب خطواته فذهب الولد الصغير مسرعاً ليمسك بالمكنسة ليكنس آثارها لكي لا يبقى لها أثر لأن ذلك الطفل قرر أن ينتشل نفوس إخوته من بحار الجهل الحسي والاختطاف العقلي التي غرقوا فيها في ظل تسلط أخيهم ليعيد رحلة بناء وتصحيح لهم بعد هدم ركام بقايا تاريخ ذلك الابن المدلل وليطمس تلك الصورة الذهنية التي رسمها الشعور الاعتقادي المخطئ من الإخوة والذي أصله وغذاه ذلك الأخ لحياتهم وشخصياتهم المغيبة.


أمينة وشكوى ضجت لها مدينة



تلك الحديقة القريبة من منزلنا، أقصدها بشكل شبه يومي أذهب إلى تلك الحديقة مصطحباً معي ابنة أختي الصغيرة لكي تمارس هوايتها المفضلة في التأرجح على تلك الأراجيح الموجودة في جنبات تلك الحديقة، تسألني دوماً لماذا لا تتأرجح معي ياخالي العزيز؟ فأجيبها قائلاً لها: تأرجحي وامتلئي سعادة يا صغيرتي الحلوة فأنا منذ كنت صغيراً في عمرك كنت أحب هذه اللعبة لكن عندما كبرت تركتها وتحولت إلى تلك الأراجيح التي نصادفها في حياتنا اليومية والعملية وكثير من الجوانب الأخرى، فهي تغنينا عن أي أرجوحة أخرى. كانت تلك الحديقة القريبة من منزلنا مكاناً جميلاً للعب فيه، مسطحات خضراء أخاذة، أشجار وارفة الظلال، أشياء تستجلب في نفس الكاتب مشاعر التعبير المتفجرة والمتشظية في بيانها وسردها الأدبي الخالص. كنت أذهب لتلك الحديقة فأجتمع مع الرفقاء والأصحاب، تارة نتجاذب أطراف الحديث في أي شأن، وتارة نلعب الورق، وتارة نمارس الإسقاطات على بعضنا بعضاً والطُّرف على كل منا لكن القلوب تبقى صافية كصفاء الماء فالمقصد دوماً هو البسمة التي تبقى مرتسمة قبل وبعد كل لقاء. كان في تلك الحديقة امرأة تضع بساطها اليومي في جنبات تلك الحديقة، تبيع ما لديها على المرتادين والزائرين، كان لدى تلك المرأة خادمة وكانت تدعى-أمينة- امرأة من دولة إندونيسيا قرعت الأجراس باب عمرها الذي وصل لمنتصف الأربعينيات. كنت دوماً عندما آتي لشراء شيء أشربه من تلك البائعة تبدأ أمينة الحديث معي، ربما لأني دوماً لا أضع حواجز أمام المحيطين بي فكان ذلك عنصراً مساعداً أن تتحدث بأريحية مطلقة معي في كل مرة أذهب لشراء شيء من تلك البضاعة المتجولة، في كل مرة تبدأ حديثها المقتضب معي حول أبنائها في إندونيسيا حيث إن لها ابنة بلغت الخامسة عشرة من عمرها ولم ترها خلال ثلاث سنوات مضت!! يا إلهي مدة ليست بالسهلة إطلاقاً، يا لحالكم البائس يا معشر الخدم والسائقين فلولا لقمة العيش الصعبة أكاد أجزم أنكم لم تتركوا الديار والأهل كي تأتوا لمصير متعب بالنسبة لكم، أتيت في تلك المرة وما أن فرغت من طلب قليل من الشاي حتى بدأت أمينة بالحديث والتشكي فلم أملك سوى أن أرخيت سمعي وأذني قليلاً لحديثها فكانت تقول إنها ستذهب قريباً لإندونيسيا لزيارة ابنتها وإنها سوف تقضي ما يقارب أسبوعين بعد غياب ثلاث سنوات وإنها تأخرت جدّاً عن موعد زيارة أهلها بسبب أعمال البيت عند المرأة التي تعمل لديها ففضلت تأخير زيارتها كي تساعدها في أمورها الخاصة والتي لم تستدعِ تأخير زيارة تلك الخادمة لبلدها حسب إفادة أمينة في سياق كلامها لي. كان ذلك الحوار هو الدائم كلما جئت كي أبتاع منها شيئاً فما تلبث أن تتحدث معي ذلك الحوار الحزائني الذي يعبر عن حالتها النفسية، فلم أكن أمتلك سوى المسايرة في الحديث والتفاعل مع شكواها، وما أن انتهت من حديثها معي حتى قالت لي بلغتها العربية المتكسرة -أوووه مستر شاهي بورد- وكانت تعني أن ذلك الشاي الذي اشتريته كان قد برد في أثناء حديثها معي، فقلت لها لا مشكلة إذا كان البرود سيقتصر على ذلك الشاي فلا يمتد ذلك البرود لمشاعر وأحاسيس بني البشر حتى تتحول علاقتهم بالخدم إلى أشبه ما يكون بالإهمال وأنهم آلات صماء، هنا لم تفهم تلك الخادمة أمينة مغزى كلماتي فقالت لي وهي تشير لي برأسها أنها لم تفهم مقصدي فقلت لها: لا يوجد شيء يا أمينة فلقد كنت أفكر عن الشخص الذي سوف يشرب الشاي وهو بارد هكذا ((ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء))....سعود المحمود

الطاووس والنعامات الصغيرة

في إحدى القرى الريفية كان هناك مزرعة يقطن فيها مزارع وزوجته،كان في تلك المزرعة حظيرة صغيرة يعيش فيها طاووس ونعامات صغيرة. ذات يوم عزم الرجل على السفر مع زوجته، حمل ذلك الرجل وزوجته هم تلك النعامات الصغيرة، فأخذا يفكران ويقولان:كيف لنا أن نترك النعامات الصغيرة دون متابعه خلال سفرنا، ونحن لا نعرف أحداً في الجوار نوكل له الاهتمام بهن ورعايتهن خلال فترة غيابنا. نظر الزوجان بعضهما في محاولة لإيجاد فكرةٍ ما!! هنا جلس الزوج يقول لزوجته: ما رأيكِ أن نوكل للطاووس مهمة متابعة تلك النعامات؟ فهو محبوب لدينا، هنا عقبت الزوجة بقولها: إنها فكرة صائبة فالطاووس لن يخيب ثقتنا به وسوف يعتني بتلك النعامات الصغيرة على أكمل وجه. اجتمع الزوجان بالطاووس فأمراه بالاعتناء التام بالنعامات ورعايتهن أثناء غيابهما فوعدهما الطاووس بتنفيذ ما طلباه منه ومضى الزوجان بعد ذلك في طريق رحلتهما مطمئنين على حال النعامات في ظل وجودهن تحت رعاية الطاووس. كانت النعامات حديثة نمو وصغيرة الحجم فلم تكن عالمة بما هو حولها من أحداث الحياة، أمر الطاووس النعامات الصغيرة بالدخول لقفص كان موجوداً في الحظيرة فجلست داخل القفص فقام الطاووس بدوره بإقفال القفص، كان يرى الطاووس في تصرفه ذلك ذريعة منطقية بالنسبة له لحماية النعامات من الخطر وعزلها عن العالم الخارجي لكي لا ينتف ريشها الثمين كل من يراه. كان في داخل القفص فتحة صغيرة تنبعث منها أشعة الشمس ويسمع منها أصوات بقية الطيور والحيوانات. ذات يوم مر بلبل عابر فوقف عند فتحة القفص وأخذ يشدو بالتغريد، فأحس بوجود النعامات الصغار في داخل القفص بعد سماعه لصوتها الصادر، فأخذ البلبل يلقي التحية على النعامات الصغيرة وأخذ يسألها: لماذا أنتن جالسات في هذا القفص؟ فأجابت النعامات: لا ندري، فنحن هذا حالنا منذ ولدنا..! فسأل البلبل مجدداً: هل أنتن تغردن مثلي؟
فأجابت النعامات: لا ندري..! في ذلك الوقت جاء ديك ووقف بجانب البلبل وأخذ يسأل النعامات: لماذا أنتن جالسات في هذا القفص؟ فأجابت النعامات: لا ندري، فنحن هذا حالنا منذ ولدنا..! فسأل الديك مجدداً: هل أنتن تصحن مثلي؟ 
فأجابت النعامات: لا ندري..! هنا مر ببغاء ووقف بجانب البلبل والديك وأخذ بدوره يسأل النعامات: لماذا أنتن جالسات في هذا القفص؟ فأجابت النعامات: لا ندري، فنحن هذا حالنا منذ ولدنا..! فسأل الببغاء مجدداً: هل أنتن ترددن الكلام مثلي؟ فأجابت النعامات: لا ندري..! هنا جلس البلبل والديك والببغاء يتساءلون فيما بينهم قائلين: لماذا هو حال تلك النعامات لا تدري عن شيء يخصها ولا تعلم من أمرها شيئاً؟ النعامات تمشي ولها ريش وتضع رأساً في الأرض ولديها قوة سمع و..و.. وأخذ البلبل والديك والببغاء يعددون صفات النعامة الغائبة عن معرفة النعامات الصغيرة. هناك نظر البلبل والديك والببغاء لذلك الطاووس الواقف بغرور وخيلاء عند باب القفص فأشرقت الشمس وأخذ يستعرض الطاووس ريشه الملون الذي غطى باب القفص، وفي الوقت نفسه دخلت فجأة للحظيرة بجعة بيضاء جميلة فلفتت انتباه ذلك الطاووس الذي صار يتبعها حتى خرجا معاً من الحظيرة، فجأة دخل ذئب صغير لتلك الحظيرة وتوجه صوب القفص وقام بكسره وحمل تلك النعامات، هنا غرد البلبل وصاح الديك وردد الببغاء تغريد البلبل وصياح الديك، فرد عليهم الذئب لا تخافوا فأنا لست شريراً بل جئت لأحرر وأنقذ النعامات الصغيرة من قبضة وقيد ذلك الطاووس المتسلط، فلقد مات المزارع وضاعت زوجته في سفرهما والطاووس قد راح يلهث خلف تلك البجعة ولن يأبه لأمر هذه النعامات التي قد تموت لو بقيت دون توعية وتعريف بما هي تملكه وقد تموت لو بقيت عائشة على جهلها......سعود المحمود